لا ترحل من كون إلى كون، فتكون كحمار الرحى، يسير و المكان الذي ارتحل إليه هو المكان الذي ارتحل منه، و لكن ارحل من الأكوان إلى المكون، و أن إلى ربك المنتهى، و انظر إلى قوله صلى الله عليه و سلم: " فمن كانت هجرته إلى الله و رسوله فهجرته إلى الله و رسوله، و من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه "، و افهم قوله صلى الله عليه و سلم، و تأمل هذا الأمر إن كنت ذا فهم.

لا ترحل من كون إلى كون فتكون كحمار الرحى، يسير، و الذي ارتحل إليه هو الذي ارتحل عنه، و لكن ارحل من الكون إلى المكون، و إن إلى ربك المنتهى ...

قلت: الرحيل من الكون إلى الكون هو الرحيل من السوى إلى طلب السوى، و ذلك كمن زهد في الدنيا و انقطع إلى الله يطلب بذلك راحة بدنه و إقبال الدنيا عليه لقوله صلى الله عليه و سلم:" من انقطع إلى الله كفاه الله كل مؤنه و رزقه من حيث لا يحتسب" و لقوله صلى الله عليه و سلم أيضا " من كانت الآخرة نيته جمع الله عليه أمره و جعل غناه في قلبه و أتته الدنيا و هي صاغرة"، و كمن زهد فيها يطلب الخصوصية ، كإقبال الخلق و العز، و تربية المهابة في قلوب الناس، أو زهد فيها يطلب الكرامة و خوارق العادات، أو زهد فيها بطلب القصور و الحور، فهذا كله رحيل من كون إلى كون، فمثله كمثل حمار الطاحونة يسير الليل و النهار و هو في موضعه، فالذي ارتحل منه هو الذي ارتحل إليه، فمن كانت همته الحظوظ النفسانية، فحاله حال حمار الساقية في السير دائم و هو في موضعه قائم يظن أنه قطع مسافة مما طلب، و ما زاد إلا نقصا مع تعــب..

و قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: قف بباب واحد لا لتفتح لك الأبواب، تفتح لك الأبواب، و اخضع لسيد واحد لا لتخضع لك الرقاب، تخضع لك الرقاب، قال تعالى:( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ).

فينبغي لك أيها المريد أن ترفع همتك إلى الملك المجيد، فترحل من رؤية الأكوان إلى طلب شهود الملك الديان، أو ترحل من الدليل و البرهان، إلى رتبة الشهود و العيان، و هو غاية القصد و بلوغ المنتهى، (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى)، و لا ترحل من كون إلى كون، بأن تترك حظا من حظوظ نفسك طلبا لحظ آخر، فتكون كحمار الرحىالذي سار منه هو الذي عاد إليه، و تشبيهه بالحمار دليل على بلادته و قلة فهمه، إذ لو فهم عن الله لرحل عن حظوظ نفسه و هواه قاصدا الوصول إلى حظرة مولاه، فلا ترحل أيها المريد من كون مخلوق إلى كون مخلوق مثلك، و لكن ارحل من الكون إلى المكون، و إن إلى ربك المنتهى، و الرحيل يكون بثلاث أمور:

الأول : قصر همتك عليه دون ما سواه حتى يطلع على قلبك، فلا يجدك محبا لسواه .

الثاني : الرجعى إليه بإقامة الحقوق و الفرار من الحظوظ .

الثالث : دوام اللجوء إليه و الاستعانة به و التوكل عليه و الاستسلام لما يورده عليك..

 

قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: أربعة من كن فيه احتاج الخلق إليه:

الغنى عن كل شيء، و هو الغنى بالله، و المحبة لله، و الصدق في العبودية، و اليقين في أحكام الربوبية، (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ)، قاله الشيخ رزوق رضي الله عنه.

ثم استدل على طلب رفع الهمة إلى الله مع الإعراض عما سواه بحديث الهجرة الذي في الصحيح فقــال:

 

و انظر إلى قوله صلى الله عليه و سلم:

من كانت هجرته إلى الله و رسوله فهجرته إلى الله و رسوله، و من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه.. فافهم قوله صلى الله عليه و سلم:

فهجرته إلى ما هاجر إليه، و تأمل هذا الأمر إن كنت ذا فهم.

 

قلت: الهجرة هي الانتقال من وطن إلى وطن آخر، بحيث يهجر الوطن الذي خرج منه، و يسكن الوطن الذي انتقل إليه، و هي هنا من ثلاثة أمور، من وطن المعصية إلى وطن الطاعة، و من وطن الغفلة إلى وطن اليقظة، و من وطن عالم الأشباح إلى عالم وطن الأرواح، أو تقــول: من وطن الملك إلى وطن الملكوت، أو من وطن الحس إلى وطن المعنى، أو من وطن علم اليقين إلى وطن حق اليقين، فمن هاجر من هذه المواطن قاصدا بهجرته الوصول إلى رضى الله و رسوله، أو الوصول إلى معرفة الله و رسوله، فهجرته موصلة له إلى الله و رسوله حسب قصده و همته، و من كانت هجرته إلى حظوظ نفسه و هواه فقد خاب قصده و مسعاه، و غاية هجرته ما هاجر إليه، و كانت هجرته زيادة في جر الوبال عليه.

فافهم أيها السامع قوله صلى الله عليه و سلم: فهجرته إلى ما هاجر إليه، و تدبره و أعرضه على قلبك و نفسك، و انظر هل فيك بقية من الالتفات إلى ما هاجرت منه، أو فيك حظ سوى ما هاجرت إليه من رضوان الله و رسوله، أو معرفة الله و رسوله، فإن الله غيور لا يحب لمن طلبه أن يطلب معه سواه، و لن يوصل إليه من بقي فيه بقية من حظه و هواه، قال الششتري رضي الله عنه:

إن ترد وصلنا فموتك شرط

لا ينال الوصال من فيه فضله

و قال أيضــا:

ليس يدرك وصــــال

كل من فيه بقــــــيا

و سمعت شيخنا البوزيدي رضي الله عنه يقول: إذا أردتم أن تعرفوا، هل رحلت أنفسكم من هذا العالم إلى عالم الملكوت أو لم ترحل، فأعرضوا عليها الأمور التي كانت تشتهيها و تميل إليها واحدا بعد واحد، فإن وجدتموها رحلت عنها، و خرجت محبتها من قلبها، و لم تركن إلى واحد منها، فاستبشروا، فقد رحلت أرواحكم إلى عالم الملكوت، و إن وجدتموها ركنت أو مالت بالمحبة إلى شيء من هذا العالم، فجاهدوها و أخرجوها عنه بالكلية حتى ترحل إلى ربها.

و ختم هذا الباب بالسلام لما اشتملت عليه من الرحيل و المقام، فكلها تدل على سفر القلب من شهود الخلق إلى شهود الخالق، فناسب ختمها بالسلام لما فيه من ذكر السلامة، و لما كان السفر لا بد فيه من دليل، و إلا ضل عن سواء السبيل.

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire