العجب كل العجب ممن يهرب مما لا انفكاك له عنه، و يطلب ما لا بقاء معه، ( فإنها لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور ).

قلت: ما لا انفكاك منه هو الحق تعالى و قضاؤه و قدره، و ما لا بقاء له هو الدنيا أو ما تدبره النفس و تقدره، فمن أعجب العجائب أن يفر العبد من مولاه و يتوجه بالطلب لما سواه مع أنه لا انفكاك له منه، و لا محيد له عنه، إذ لا وجود له إلا منه و لا قيام له إلا به، فكيف يهرب منه بترك طلب معرفته، و بالتقرب به بامتثال أمره و اجتناب نهيه، و يطلب ما لا بقاء له من حظوظ لدنيا الفانية، التي إن لم تزل عنها في الحياة، زالت عنك في الممات، فاطلب ما يبقى دون ما يفنى، و لله در القائل:

 

هب الدنيا تساق إليك عفوا

أليس مصير ذاك إلـى زوال

و ما دنياك إلا مثل ظــل

أظلك ثم آذن بارتـــحال

أو تقول: العجب كل العجب، أن يهرب العبد و لا انفكاك له من قدر الله و قضائه، و يطلب ما لا بقاء له من حظوظ تدبيره و اختياره، إذ كل ما تَدبره و أبرمه فسخه القضاء و هدمه.

متى يبلغ البنيان يوما تمامـه

إذا كنت تبنيه و غيرك يهـــدم

و هذا كله من عدم فتح البصيرة أو عماها، و لذلك قال: فإنها لا تعمى الأبصار عن إدراك الحس لأنها أدركته و حجبت به، و لكن تعمى القلوب عن إدراك المعنى، فلا ترى إلا الحس و لا تحب إلا إياه و لا تطلب شيئا سواه نسأل الله عافيته و هداه.

قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: عمى البصيرة في ثلاث، إرسال الجوارح في معاصي الله، و الطمع في خلق الله، و التصنع بطاعة الله.

ثم إذا طلبت الحق الذي لا انفكاك لك عنه، و رحلت إليه، فاطلب معرفة ذاته لا زخارف جناته إذ هي كون من مكوناته و لذلك أشار بقوله:

الأمر الرابع: النفرة من الكون إلى المكون

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire