جعلك في العالم المتوسط بين ملكه و ملكوته ليعلمك جلالة قدرك بين مخلوقاته، و أنك جوهرة تنكوي عليك أصداف مكوناته، وسعك الكون من حيث جثمانيتك، و لم يسعك من حيث ثبوت روحانيتك.

جعلك في العالم المتوسط بين ملكه و ملكوته، ليعلمك جلال قدرك بين مخلوقاته

و أنك جوهرة تطوى عليها أصداف مكنوناته

   قلت: قد عظم الله سبحانه هذا الإنسان و جعله نخبة الأكوان، اجتمع في ما لم يجتمع في غيره، فيه ملك و ملكوت، و نور و ظلمة، و غيب و شهادة، و عالم علوي و عالم سفلي، و قدرة و حكمة، و حسن و معنى..

   فقد جعلك الله أيها الإنسان ناشئا في العالم المتوسط بين ملكه، و هو بشريتك، و ملكوته و هو روحانيتك، أو تقول بين ملكه، و هو عالم الأشباح، و ملكوته و هو عالم الأرواح، فلست أيها الإنسان مُلكا فقط، فتكون كالبهائم و الجمادات، و لا ملكوتيا فتكون كالملائكة، و لكن جعلك مركبا من مُلك و ملكوت، لتظهر مزيتك بالمجاهدة و المشاهدة، و لذلك خصّصْت بالخلافة، و تقدمت لحمل الأمانة، ثم متعت بالنعيم و النظر إلى وجهه الكريم، ثم انقسمت الناس على قسمين:

   فمنهم من غلبت بشريته على روحانيته، و ملكهم على ملكوتهم و ظلمتهم على نورهم، فبقوا في ظلمة الأكوان و منعوا من الشهود و العيان، و هم عوام المسلمين.

   و منهم من غلبت روحانيتهم على بشريتهم، و نورهم على ظلمتهم، و ملكوتهم على ملكهم، و هم الخواص العارفون السائرون إليها بمجاهدة نفوسهم في ميدان الحرب، و هو مجال الفرسان، فمنهم السابق المقرب، و منهم اللاحق المحبب، كل واحد على قدر صدقه في محبة سيده، و ظاهر كلام الشيخ أن الإنسان زائد على البشرية و الروحانية، فيقتضي أنه شيء ثابت بينهما.

   و التحقيق هو أن الإنسان هو المجموع بين الجسد و الروح، فهو بنفسه عالم متوسط، أي مركب من ملك و ملكوت، فلو قال جعلك عالما متوسطا بين ملكه و ملكوته لأفهم المراد بسهولة، أي لست ملكا فقط و لست ملكوتا فقط، أي مركبا منهما كقوله عليه السلام:(كنت نبيا و آدم بين الماء و الطين) أي مركبا منهما دون روح، و لكن عبارة الشيخ فيها ألغاز، و تدقيق إشارة، و علمنا كله إشارة، و إنما جعلك بين ملك و ملكوت ليعلمك جلالة قدرك و فخامة أمرك حتى قال:( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ...) قال: ({لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)، و ليعلمك أيضا أنك جوهرة نفيسة مصونة في صدف نفيس و هو الكون بأسره، فتطوى عليك أصداف مكنوناته من عرشه إلى فرشه، فأنت أيها الإنسان كياقوتة من صدف، الأرضتقلك و السماء تظلك و الجهات تكثفك و الحيوانات تخدمك و تنفعك، و الجمادات تدفع عنك، و أنت في وسط الجميع، فالأفلاك دائرة بك، و الشمس و القمر منيران و أنت جوهرة الصدف و لباب الكون، و مداره عليك.

   قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: الأكوان كلها عبيد مسخرة، و أنت عبد الحضرة، و في بعض الكتب، يا ابن آدم، أنا بدك اللازم، فالزم بدك.

   و في بعض الآثار المروية عن الله عز و جل: يا ابن آدم خلقت الأشياء من أجلك و خلقتك من أجلي، فلا تشتغل بما هو لك عمن أنت له، و قد قالوا في عجائب الإنسان: أن الوجود كله منطوي فيه، فهو نسخة من العالم الأكبر، و مما ينسب لأبي العباس المرسي رضي الله عنه:

  يـا تائهـا عـن مهمـه فـي سـره      انظـر تجـد فـيك الوجـود بأســره

أنـت الكمـال طريقــة و حقيقــة      يا جامعـا ســر الإلــه بأســره

و قال في المباحث:

                   يـا سابقـا فـي موكـب الإبــداع            و لاحقـا في جيش الاختـراع

                   اعقــل فأنـت نسخــة الوجـود             لله مـا أعلاك مـن مـوجـود

                   أليس فيك العــرش و الكرســـي             و العالم العلوي  و  السفلـــي

                  مـا الكــون إلا رجــل كبيــر           و أنـت كون مثلـه  صغيــر

 

   قلت: إنما يكون الإنسان نسخة من العالم، أو كونا صغيرا ما لم تغلب روحانيته على بشريته و معناه على حسه، فقد صار حينئذ ملكوتيا جبروتيا، قد استولى على الكون بأسره و صار هو العالم الأكبر، و الكون نسخة منه، و في ذلك يقول ابن الفارض:

و إني و إن كنت ابن آدم صورة            فلي فيه معنى شاهـد بأبوتـــي

   إذ الروح لم يسعها أرض و لا سماء كما بين ذلك في قوله:

 

وسعك الكون من حيث جثمانيتـك، و لم يسعك من حيث ثبوت روحانيتـك

   قلت: الروح إذا تصفت و تطهرت من كدرات الحسن عرجت إلى عالم الجبروت، فلم يحجبها عن الله أرض و لا سماء و لا فلك و لا عرش و لا كرسي، بل يصير ذلك في جوفها، كشيء تافه، و هذا أمر مذوق عند العارفين، إذا نظروا إلى الكون بأسره ذاب و رجع ماء، فإذا شربوه رجع في قلوبهم كنقطة، و هم متفاوتون في إحاطتهم بالكون، فمنهم من يصير عنده كبيضة، و منهم من يصير عنده كالخرذلة، و ذلك بحسب النظرة و ضيقها، فكلما جالت الروح في عالم الجبروت صغر الكون عندها حتى لا تحس به، و لذلك قال بعضهم: لو كان العرش في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس به، و قال آخر: العرش و الكرسي منطبعان في ترسي، و قال شيخ أشياخنا مولاي عبد القادر الجيلالي رضي الله عنه: العرش و الكرسي في طي قبضتي ثم يتلاشى الكون و يضمحل، و يتصل عالم الملكوت بعالم الجبروت، فلا بقاء إلا للحي الذي لا يموت.. و هذا لا يفهمه إلا العارفون الذين غلبت روحانيتهم على بشريتهم، فصارت روحانيتهم ملكوتية، أشباحهم مع الخلق و أرواحهم مع الحق، فقد وسعك أيها الإنسان الكون و حصرك من حيث جثمانيتك و بشريتك و هيكلك المصور، و لم يسعك من حيث ثبوت روحانيتك، لأن روحك متصلة بعالم الجبروت المحيط، فلما تكثفت و انحصرت في هذا العالم الهيكل لزمتها القهرية فانحجبت بالحكمة، و تقيدت بالقدرة، فما دامت البشرية كثيفة بحب الشهوات و العوائد، فهي محجوبة، فإذا تلطفت بذكر الله، و انخرق عنها حجاب الحس رجعت إلى أصلها، فاتصلت ببحرها، فصار الملكوت و الملك في طي قبضتها، فلم يسعها حينئذ أرض و لا سماء، لا يحصرها عرش و لا فرش، و لذلك قيل: الصوفي لا تقله أرض و لا تظله سماء.

   و في الحديث القدسي:" لم تسعني أرضي و لا سمائي و وسعني قلب عبدي المؤمن" أي الكامل، و هو العارف و الله تعالى أعلم.

   فالجبروت هو المعاني اللطيفة القديمة التي لم تدخل عالم التكوين، و الملكوت ما دخل عالم التكوين، باعتبار جمعه و لحوقه بأصله، و الملك ما دخل عالم التكوين و اعتقد فيه الفرق، و أهل الجمع لا ملك عندهم، و إنما عندهم الملكوت و الجبروت، فإذا ضموا كل شيء إلى أصله لم يبق إلا الجبروت، و أهل الفرق أثبتوا الملك بوهمهم، و حجبوا به على الله، و الله غالب على أمره، فما دام العبد مسجونا بالكون، محصورا في بشريته، فهو في سجن الأكوان، فإن نفذت بصيرته و عرجت روحه إلى الملكوت خرج من السجن إلى الفضاء كما بين ذلك بقوله:

 

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire