لا مسافة بينك و بينه حتى تطويها رحلتك، و لا قطيعة بينك و بينه حتى تمحوها وصلتك.

   قلت: هذا سؤال عن بحث مقدر، كأن قائلا قال له: هل بيننا و بينه مسافة حتى يتحقق سير السائرين إليه، فقال: لا مسافة بينك و بينه إلا حجاب النفس الكثيفة و علائق القلب الكونية، فخرق عوائدها و قطع شهواتها و قطع العلائق و العوائق هو السير إلى الله، فمن خرق عوائد نفسه زالت عنه الحجب الظلمانية، و من قطع علائق القلب فاضت عليه العلوم الربانية و أشرقت عليه الشموس العرفانية، و هذا هو الوصول، فلا مسافة بينك و بينه حسية حتى تطويها رحلتك، و لا قطعة بينك و بينه، أي لا حاجز بينك و بينه حتى تمحوها وصلتك، قال تعالى: (و لقد خلقنا الانسان و نعلم ما توسوس به نفسه و نحن أقرب إليه من حبل الوريد)

   فما حال بيننا و بينه إلا توهم وجود نفوسنا، فلو غبنا عنها لوجدنا أنفسنا في الحضرة، و لا يمكن الغيبة عنها إلا بموتها، و موتها في مخالفة عوائدها.

   قال الشيخ أبو مدين: من لم يمت لم ير الحق، و قال أبو العباس المرسي رضي الله عنه: لا دخول على الله إلا من بابين، إما بالفناء الأكبر الذي هو الموت الطبيعي، أو بالفناء الأصغر الذي تعنيه هذه الطائفة، و قال بعضهم: لا يدخل على الله حتى يموت أربع موتات: الموت الأحمر و هو مخالفة النفس، و الموت الأسود و هو تحمل الأذى من الخلق، و الموت الأبيض و هو الجوع، و الموت الأخضر و هو لبس المرقعات، و قال الشطيبي رضي الله عنه: واعلم أن طريق الحق تعالى ليس فيها مفازة و لا متاهة، بل هي منازل و أحوال، قد جعل الله لجميعها أعوانا و أنصارا، و هو سبحانه يصدق وعده و ينصر عبده و يهزم الأحزاب وحده، و إنما المفاوز المسافات في الركون إلى المألوفات و اتباع العادات، و في مسامحة النفس و الوقوف مع الحس و الحدس، و عند كشف الغطاء يتبين لك، كما قال صاحب المباحث الأصلية:

و إنمـــا القـوم مسـافــرون             لحضــرة الحــق و ظــاعنــون

فافتقــروا فيهــا إلى دليـــل             ذي بصــر بالسيــر و المقيــــل

قـد سلـك الطريــق ثـم عـاد             ليخبــر القــوم بمــا استفـــاد

   إلى آخر كلامــه/.

   و قال أيضا: و من الناس من تحجبه المجاهدة على المشاهدة، فتسطو عليه الأحوال، فتحول بينه و بين الغاية القصوى، و مناهج الخلق متفاوتة لا تجري على منهاج واحد، قال الله العظيم:( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً) و (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ)، فكل شخص إنما يعبر عن وجهته التي خصه الله بها، و لذلك كان النظر في الكتب يضعف المسالك لتشعبها، و كثرتها عند اختلاف الهمم، لا سيما من جبلت طبيعته على علم الظاهر، فإنه أبعد الناس عن الطريق، ما لم يتداركه الله بفتح منه، لأن التشريع كل حكمة تحتها حكم، من لم يفهمها فبستانه مزهر غير مثمر، و من هنا وقع الإنكار حتى امتحن الله كثيرا من الصوفية على أيدي علماء الظاهر عندما نسبوهم للكفر و الزندقة و البدعة و الضلال، و سر الخصوصية يقتضي ذلك لا محالة، سنة الله التي قد خلت من قبل، و لن تجد لسنة الله تبديلا، و لو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا و للبسنا عليهم ما يلبسون، و ما هلكت الأمم السابقة إلا بقولهم إنا وجدنا آباءنا على أمة و إنا على آثارهم مقتدون/.

   فتحصل أن الانسان إذا جال مع النفس في ميدانها، فجاهدها حتى هذبها و طهرها من الأوصاف الحاجبة لها رجعت نفسه حينئذ إلى أصلها، و هي الحضرة التي كانت فيها، إذ لم تكن بينها و بين الحضرة إلا الحجب الظلمانية، فلما تخلصت منها رجعت إلى أصلها نورا مشرقا في قالب ظلماني، فصارت عنده ياقوتة مكنونة تطوى عليها أصداف المكنونات، كما أبان ذلك بقوله في الباب الموالي.

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire