ربما دخل الرياء عليك من حيث لا ينظر الناس إليك ،

   قلـت: الرياء هو طلب المنزلة عند الناس، و قصد ذلك بعمل صالح سواء كان ذلك العمل ظاهرا للناس و هو الغالب، أو خفيا عنهم، فقد يكون الرياء في العمل الخفي، فيدخل الرياء عليك حيث لا ينظر أحد إليك، و هذا أصعب من الأول، لأنه أخفى من ذبيب النمل كما في الحديث، و كان بعض العارفين يقول: أجتهد بإزالة الرياء من قلبي بكل حيلة، فما أزلته من جهة حتى نبت من أخرى من حيث لا أظنه..

   و قال بعضهم: من أعظم الرياء من رأى العطاء و المنع و الضرر و النفع من الخلق..

   و قال بعضهم: الرياء ثلاثة كلها علل في الدين: الأول: أعظمها، و هو أن يقصد بعمله الخلق و لولاهم لم يعمل، و الثاني: أن يعمل للمدحة و الثناء و لو لم يعلمه الناس، و الثالث: أن يعمله لله و يرجو على عمله الثواب و رفع العقاب، و هذا النوع جيد من وجه، معلول من آخر، فهو عند العارفين رياء و عند عامة المسلمين إخلاص، و قد قيل في قوله تعالى: (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) هو السالم من الرياء ظاهرا و باطنا، لا يريد صاحبه حظا دنيويا و لا أخرويا..

   و للمرائي علامات لا يخفى منها نشاطه و كسله في الخلوة، و إتقان العمل حيث يراه الناس و تساهله حيث لا يراه إلا الله، و منها التماسه بقلبه توقير الناس له، و تعظيمه، و مسارعتهم إلى قضاء حوائجه، و إذا قصر أحد في حقه الذي يستحقه عند نفسه استبعد ذلك و استنكره، و يجد تفرقة بين إكرامه و إهانته و إكرام غيره من أقرانه، حتى ربما يظهر بعض سخفاء العقول ذلك على ألسنتهم، فيتوعدون من قصر في حقهم بمعاجلة الله لهم بالعقوبة، و أن الله تعالى لا يدعهم حتى ينتصر لهم و يأخذ ثأرهم، فإن وجد الفقير هذه الأمارات في نفسه، فليعلم أنه مرائي بعمله، و إن أخفاه عن أعين الناس..

   و قد روي عن علي كرم الله وجهه أن الله تعالى يقول للفقراء يوم القيامة: ألم تكن ترخص عليكم الأسعار، ألم تكونوا تبادرون بالسلام، ألم تكونوا تقضى لكم الحوائج، و في الحديث الآخر: "لا أجر لكم قد استوفيتم أجوركم"..

   و قال عبد الله بن المبارك، روي عن وهب بن منبه رضي الله عنه أن رجلا من العباد قال لأصحابه: إنا إنما فارقنا الأموال و الأولاد مخافة الطغيان، فنخاف أن يكون قد دخل علينا في أمرنا هذا من الطغيان أكثر مما دخل على أهل الأموال في أموالهم، إن أحدنا إذا لقي أحب أن يعظم لمكان دينه، و إن سأل حاجة أحب أن يعطى له لمكان دينه، و إن اشترى شيئا أحب أن يرخص عليه لمكان دينه، فبلغ ذلك ملكهم، فركب في موكب من الناس، فإذا السهل و الجبل قد امتلأ من الناس، فقال السائح: ما هذا، قيل له: الملك قد أظلك، فقال للغلام: ائتني بطعام، فأتاه ببقل و زيت و قلوب الشجر، فأقبل يحشو شدقه و يأكل أكلا عنيفا، فقال الملك: أين صاحبكم، قالوا هذا، قالوا له: كيف أنت، قال : كالناس، و في حديث آخر: بخير، فقال الملك: ما عند هذا من خير، فانصرف عنه، فقال السائح: الحمد لله الذي صرفك عني و أنت لي ذام..

   و من هذا النوع من الرياء خاف الكبار و عدوا أنفسهم من الأشرار، كما روي عن الفضيل رضي الله عنه أنه قال: من أراد أن ينظر إلى مرائي، فلينظر إلى هذا، و سمع ملك بن دينار امرأة تقول له يا مرائي، فقال يا هذه، وجدت اسمي الذي أضله أهل البصرة، إلى غير هذا مما روي عنهم في هذا المعنى..

   و لا يسلم من الرياء الجلي و الخفي إلا العارفون الموحدون، لأن الله طهرهم من دقائق الشرك، و غيب عن نظرهم رؤية الخلق، بما أشرق على قلوبهم من أنوار اليقين و المعرفة، فلم يرجو منهم حصول منفعة، و لم يخافوا منهم وجود مضرة، فأعمال هؤلاء خالصة، و إن عملوها بين أظهر الناس، و من لم يحظ بهذا و شاهد الخلق، و توقع منهم حصول المنافع و دفع المضار، فهو مراء بعمله، و إن عبد الله تعالى في قنة جبل بالنون، أي أعلاه، قاله الشيخ ابن عباد.../.

    و من علامة الرياء الخفية أيضا استشراف العبد، و تطلعه أن يعلم الناس بخصوصيته كما أشار إليه بقوله:

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire