ربما فتح لك باب الطاعة و ما يفتح لك باب القبول، و ربما قضى عليك الذنب فكان سببا في الوصول، فمعصية أورثت ذلا و افتقارا خير من طاعة أورثت عزا واستكبارا.

ربمــا فتح لك باب الطاعــة و ما فتـح لك بـاب القبـــول،

و قضـــى عليـك الذنـب فكـان سببا فــي الوصـــول..

قلـت: لا عبرة للطاعة إذا لم يصحبها قبول، كما لا عبرة بالسؤال حيث لم يحصل به مأمول، إذ الطاعة إنما هي وسيلة لمحبة المطاع و إقباله على المطيع بحيث يفتح في وجهه الباب، و يرفع عن قلبه وجود الحجاب، و يجلسه على بساط الأحباب.

فإذا فتح لك باب العمل و بلغت في تحصيله غاية الأمل، غير أنك لم تجد له ثمرة، و لم تذق له حلاوة من الأنس بالله و الوحشة مما سواه، و من الغنى به و الانحياش إليه و الاكتفاء بعلمه و القناعة بقسمته، فلا تغتر بذلك أيها المريد، فربما فتح لك باب طاعته، و أنهضك إلى خدمته، و لم يفتح لك باب القبول، و منعك بها من الوصول حيث اعتمدت عليها، و ركنت إليها، و آنست بها، و أشغلتك حلاوتها على الترقي إلى حلاوة المنعم بها، و لذلك قال بعضهم: احذروا حلاوة الطاعة فإنها سهوم قاتلة، لأنها تقبض صاحبها في مقام الخدمة و يحرم من مقام المحبة، و فرق كبير بين من شغله بخدمته و بين من اصطفاه لمحبته و اجتباه لحضرته، فإجراء الذنب على العبد أحسن من مثل هذه الطاعة التي تكون سبب الحجاب كما نبه إلى ذلك بقولـه:

و قضـــى عليـك الذنـب فكـان سببا فــي الوصـــول..

قلـت: و ذلك أن العبد إذا كان سائرا لمولاه، قاصدا لوصول حضرة حبيبه و رضاه، قد يحصل له كلل، أو يصيبه ملل، أو يركبه كسل، فيسلط الحق عليه ذنبا، أو تغلبه نفسه فيسقط، فإذا قام من سقطته جد في سيره و نهض من غفلته و نشط من كسله، فلا يزال جادا في طلب مولاه غائبا عما سواه حتى يدخل حضرته، و يشاهد طلعته، و الحضرة هي تجليات الحق و أسرار ذاته..

مثال لذلك، أن رجلا مسافرا أصابه في الطريق نوم أو كسل، و إذا به يسقط و يضربه حجر، و إذا به يقوم و قد ذهب كسله فجد في سيره..

و في الحديث: رب ذنب أدخل صاحبه الجنة، قالوا و كيف ذلك يا رسول الله، قال: لا يزال تائبا، فارا منه خائفا من ربه حتى يموت فيدخل الجنة، أو كما قال عليه الصلاة و السلام..

و عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:" و الذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم و لجاء بقوم يذنبون و فيستغفرون فيغفر لهم".

و قال صلى الله عليه و سلم في شأن الطاعة التي لم تقبل:" رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، و قائم ليس له من قيامه إلا السهر"، فخير من هذه الطاعة، المعصية التي يصحبها الذل و الندم و الانكسار، كما أبان ذلك بقوله:

 

معصية أورثت ذلا و انكســارا، خير من طاعــة أورثت عــزا و استكبــارا

قلـت: إنما كانت المعصية التي توجب الانكسار أفضل من الطاعة التي توجب الاستكبار، لأن المقصود من الطاعة هو الخضوع و الخشوع و التذلل و الانكسار، أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي، فإذا خلت الطاعة من هذه المعاني و اتصفت بأضدادها، فالمعصية التي توجب هذه المعاني، و تجلب هذه المحاسن أفضل منها، إذ لا عبرة بصورة الطاعة و لا بصورة المعصية، و إنما العبرة بما ينتج عنهما،إن الله لا ينظر إلى صوركم و لا إلى أعمالكم و لكن الله ينظر إلى قلوبكم، فثمرة الطاعة هي الذل و الانكسار، و ثمرة المعصية هي القسوة و الاستكبار، فإذا انقلبت الثمرات انقلبت الحقائق، صارت الطاعة معصية و المعصية طاعة، و لذلك قال المحاسبي رضي الله عنه:

إنما مراد الله سبحانه من عباده قلوبهم، فإذا تكبر العالم أو العابد، و تواضع الجاهل و العاصي و ذل لهيبة الله عز و جل خوفا منه، فهو أطوع لله عز و جل من العالم و العابد بقلبه..

و قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: كل إساءة أدب تثمر أدبا، ليست بإساءة أدب، و كان رضي الله عنه كثير الرجاء لعباد الله الغالب عليهم شهود وسع الرحمة، و كان رضي الله عنه يكرم الناس على نحو رتبتهم عند الله، حتى أنه ربما يدخل عليه مطيع فلا يبالي، ثم يدخل عليه عاص فيكرمه، لأن الطائع أتى و هو متكبر بعمله و ناظر لفعله، و ذلك العاصي دخل ذليلا بكثرة معصيته و مخالفته، قاله المصنف في لطائفه..

و قال أبو يزيد رضي الله عنه: نوديت في ســري، خزائني مملوءة بالخدمة، فإن أردتنا فعليك بالذلة و الافتقار..

و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أشد من ذلــك، العجــب" كذا في الصحيحين، و قال عليه الصلاة و السلام:" لولا أن الذنب خير من العجب، ما خلا الله بين مؤمن و ذنب أبدا ".

و قال الشيخ أبو مدين رضي الله عنه: انكسار العاصي خير من صولة المطيع..

و قال شيخ شيوخنا رضي الله عنه: معصية بالله خير من ألف طاعة بالنفس /.

و معنى كلام الشيخ أن العبد إذا أجريت عليه زلة لم يقصدها بقلبه، و إنما جرته القدرة إليها رغما على أنفه، ثم ندم و انكسر، فهي في حقه خير من ألف طاعة يشهد فيها نفسه، و يتبجح بها على عباد الله، و لله در صاحب العينية حيث يقول:

و أسلمت نفسي حين أسلمني الهوى

و مالي عن حكم الحبيب تنازع

فطورا تراني في المساجد راكعــا

و إني طورا في الكنائس راتــع

أراني كالآلات و هو محركـــي

أنا قلم و الأقدار أصابـــع

و لست بحبري و لكن مشاهــد

فعال مريد ما له من يدافـــع

فآونة يقضي علي بطاعـــــة

و حينا بما عنه تنهنا الشرائــع

لذلك تراني كنت أترك أمـــره

و آتي الذي أنهاه و الجفن دامـع

و لي نكتة غراء سـوف أقولهـا

و حق لها أن ترعو بها المسامـع

هي الفرق بين الولي و فاســق

تنبه لها فالأمر فيه فظائـــع

و ما هو إلا أنه قبل وقعـــه

يخبر قلبي بالذي هو واقـــع

فأجني الذي يقضيه فيّ مرادهــا

و عيني له قبل الفعال تطالــع

فكنت أرى منها الإرادة قبل مــا

أرى الفعل مني و الأسير مطاوع

فآتي الذي تهواه نفسي و مهجـتي

لذلك في نار حوتها الأضالــع

إن كنت في حكم الشريعة عاصيا

فإني في علم الحقيقة طائــع

فأشار إلى معصية الولي و معصية الفاسق، و ذلك من ثلاثة أوجه:

الولي لا يقصدها و لا يفرح بها، و لا يصر عليها، و الفاسق بالعكس في جميع ما قيل، و قيل للجنيد: أيزني العارف، فقال: و كــان أمر الله قدرا مقدورا، لكن معصية الولي حدها الظاهر، و لذلك قال ابن عطاء الله، ليت شعـري، لو قيل له: أتتعلق همـة العارف بغير الله لقال: لا /.

نعمـة الإيجاد و نعمــة الإمداد

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire