متى آلمك عدم إقبال الناس عليك أو توجههم بالذم إليك، فارجع إلى علم الله فيك، فإن كان يقنعك علم فمصيبتك بعدم قناعتك بعلمه أشد من مصيبتك من الأذى منهم، إنما أجرى الأذى على أيديهم كي لا تكون ساكنا إليهم، أن أراد أن يزعجك عن كل شيء حتى لا يشغلك عنه شيء.

متى آلمك عدم إقبال الناس عليك أو توجههم بالذم إليك،

فارجع إلى علم الله فيك، فإن كان لا يقنعك علمه فيك،

فمصيبتك بعدم قناعتك بعلمه أشد من مصيبتك بوجود الأذى منهم

   قلت: إذا سلط الله عليك خلقه ليختبرك هل أنت غني به أو بخلقه، فأدبروا عنك و اشتغلوا بذمك و شتمك، ثم توجعت من ذلك، فارجع إلى علم الله فيك، و إطلاعه عليك، إذ لا يخفى عليه شيء من أمرك، فإن كفاك ذلك و قنعت به و آنست بذكره أو شهوده استوى عندك ذمهم و مدحهم، و إقبالهم و إدبارهم، بل ربما آثرت إدبارهم، إذ فيه راحتك و تفريغ قلبك مع ربك، فإن لم تقنع بعلم الله و لم تكتف بنظره، و تأسفت على إدبارهم، أو تألمت من أذاهم فمصيبتك بضعف إيمانك، و ذهاب يقينك أشد من مصيبة ذم الناس و إدبارهم عنك، لأن هذا موجب لسخط الله و غضبه، و سقوطك من عين محبته، و أما إذاية الخلق و بعدهم عنك فرحمة بك، و أيضا إذا اشتغل الناس بذمك و إضرارك، فانظر أنت مقامك مع ربك، فإن كنت مع ربك صافيا فلا يكيدك شيء و لا يضرك شيء كما قال شيخ شيوخنا المجذوب رضي الله عنه:

النـــاس قالــوا لــي بدعـي            و أنــا طريقــــي منجــــورا

إذا صفيـــت مـع ربـــــي            العبـــد مــا منـــه ضــرورا

   و قال إبراهيم التيمي رضي الله عنه لبعض أصحابه: ما يقول الناس فيّ، قال: يقولون أنك مرائي، قال: الآن طاب العيش قال: بشر الحافي حين بلغه كلام التيمي اكتفى اكتفى و الله بعلم الله، فلم يجب أن يدخل مع علم له علم غيره، و قال أيضا: سكون القلب إلى قبول المدح لها أشد فيها من المعاصي.

   و قال أحمد بن أبي الحواري رضي الله عنه: من أحب أن يعرف بشيء من الخير أو يذكر به، فقد أشرك مع الله في عبادته، لأن من عمل على المحبة لا يحب أن يرى عمله غير محبوبه، و قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: لا تنشر علمك ليصدق الناس، و انشر علمك ليصدقك الله، و إن كان لأم العلة موجودا فعلة تكون بينك و بين الله من حيث أمرك خير من علة تكون بينك و بين الناس من حيث نهاك، و لعلة تردك إلى الله خير لك من علة تقطعك عن الله، فلأجل ذلك لم يعملوا بالثواب إذ لا يخاف و لا يرجى إلا من قبل الله و كفى بالله صادقا و مصدقا، و كفى بالله عالما و معلما و كفى بالله هاديا و نصيرا، و وليا هاديا يهديك و يهدي بك و يهدي إليك، و نصيرا ينصرك و ينصر بك و لا ينصر عليك، و وليا يواليك و يوالي بك و لا يوالي عليك/.

 

حكمة وجود الأذى من الخلق لأولياء الله تعالى

الحكمة التاسعة و الثلاثون بعد المائتين

إنما أجرى الأذى على أيديهم كي لا تكون ساكنا إليهم،

أراد أن يزعجك عن كل شيء حتى لا يشغلك عنه شيء

   قلت: الروح إذا ركنت إلى هذا العالم السفلي، و سكنت فيه و أحبت ما فيه تعذر نقلها إلى عالم الملكوت، الذي هو العالم الروحاني، لما ألفته من حب الأهل و الأولاد و الأصحاب و العشائر، فمن حكمة الله تعالى و لطفه و إبراره بوليه أن يحرك عليه ما ركنت إليه نفسه، و ألفته روحه، الأحب فالأحب، فأول من ينكره أهله و أولاده، ثم جيرانه و أحبابه، ثم ينكره العالم بأسره، فإذا رأت الروح أن هذا العالم أنكرها و ضاق عليها رحلت إلى مولاها، و لم يبق لها تشوف إلى هذا العالم أصلا، فحينئذ يكمل وصفها و يتحقق فناؤها و بقاؤها.

   فلو بقيت النفس على ما هي عليه من السكون تحت ظل الجاه و العز ما رحلت من هذا العالم أصلا، و كلما قوى الأولياء على الأذى دل ذلك على علو مقامهم عند المولى، فإنما أجرى الحق سبحانه الأذى على يد الخلق إليك إذ هو المجري و المنشي، فلا فاعل غيره، كي لا تكون ساكنا بقلبك و روحك إليهم، فيعوقك ذلك عن العروج إلى الملكوت. أراد الحق تعالى أن يزعجك عن كل شيء من هذا العالم حتى لا تركن إلى شيء، و لا يشغلك عن شهود شيء، إذ محال أن تشهده و تشهد معه سواه، أو تحبه و تحب معه سواه.

   أبت المحبة أن تشهد غير محبوبها، فإذا تمكنت المحبة و كمل الشهود ردّهم إن شاء إلى عباده مرشدين إليهم بالله، قال في لطائف المنن:

   اعلم أن أولياء الله حكمهم في بدايتهم أن يسلط عليهم الخلق ليتطهروا من البقايا و تكمل فيهم المزايا، و كي لا يكنوا هذا الخلق باعتماد أو يميلوا إليهم بإسناد، و من آذاك فقد أعتقك من رق إحسانه، و من أحسن إليك فقد استرقك بوجود امتنانه، و لذلك قال صلى الله عليه و سلم:" من أسدى إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تقدروا فادعوا له"، كل ذلك ليتخلص القلب من رق إحسان الخلق، و يتعلق بالملك الحق، و قال الشيخ أبو الحسن: اهرب من خير الناس أكثر ما تهرب من شرهم، فإن خيرهم يصيبك في قلبك و شرهم يصيبك في بدنك، و لأن تصاب في بدنك خير من تصاب في قلبك، و لعدو تصل به إلى الله خير لك من حبيب يقطعك عن الله، و عد إقبالهم عليك ليلا و إدبارهم عنك نهارا، ألا تراهم إذا أقبلوا فتنوا،

  قال: و تسليط الخلق على أولياء الله في مبدء طريقهم سنة الله في أحبائه و أصفيائه، قال الشيخ أبو الحسن في حزبه: اللهم إن القوم قد حكمت عليهم بالذل حتى عزوا، و حكمت عليهم بالفقد حتى وجدوا، ثم قال: و ما يدلك على أن هذه سنة الله في أحبائه و أصفيائه قوله تعالى:( و زلزلوا حتى يقول الرسول) البقرة 214 و غير ذلك من الآيات الدالة على هذا المعنى.

   و قال بعض العافين: و يجب أن تعلم أن النفوس شأنها استحلاء الإقامة في موطن العز و الرفعة، فلو تركها الحق سبحانه لهلكت فأزعجها عن ذلك بما سلط عليها من أذى المؤمنين و معارضة الجاحدين، و في هذا المعنى قيل:

عـداتي لهم فضـل عليّ و منـة         فلا أبعد عني الرحمـن الأعــادي

فهم بحثوا عـن زلتـي فاجتنيتهـا        و هم نافسوني فأركبن المعاليـــا

   و قال بعضهم: النصيحة من العدو سوط من الله يرد بها القلوب إذا سكنت إلى غيره، و إلا رقد القلب في ظل العز و الجاه و هو حجاب عن الله تعالى عظيم، و قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: آذاني إنسان مرة فضقت ضرعا بذلك، فنمت فرأيت يقال لي: من علامة الصديقية كثرة أعدائها، ثم لا يبالي بهم/.

   إذا تقرر هذا علمت أن إذاية الخلق للولي سنة ماضية، يعني سنة الله و رسله، فلن تجد لسنة الله تبديلا، و انظر أحوال نبينا عليه الصلاة و السلام ما رأى مع قريش و بني وائل، مكث معهم بعد النبوة التي هي محل الأذى من الخلق ثلاثة عشر سنة كلها جلال، و شدة و بلاء، و حين انتقل إلى المدينة لم تكن له راحة، بين جهاد و تعليم، و معاملة أحبار يهود بالإذابة و التشغيب حتى لقي الله صلى الله عليه و سلم، و شرف و كرم و مجد و عظم، و كذلك أصحابه معه، و بعده لم تكن لهم راحة، و جلهم ماتوا مقتولين، فقد مات الصديق مسموما، و مات الفاروق مقتولا، و عثمان مذبوحا، و سيدنا علي مضروبا بالسهم مسموما حتى مات، و الحسن مسموما و الحسين مقتولا، حتى لعبوا برأسه بالشام، ثم دفن بمصر بعدما فداه بعض الملوك، و هو مزارة الحسين المشهورة عنهم، ثم ما لا يحصى.

   و لقد سعي بالجنيد و أصحابه إلى السلطان، و أتى بهم للسيف ثم لطف الله بهم، و قصتهم أن فقهاء بغداد قالوا للمتوكل: إن الجنيد قد تزندق هو و أصحابه، فقال لهم الملك و كان يميل إلى الجنيد: يا أعداء الله ما أردتم إلا أن تفنوا أولياء الله من الأرض واحدا بعد واحد، قتلتم الحلاج، و أنتم ترون له كل يوم عبارة، و لا تزدجرون، و هذا الجنيد لا سبيل لكم إليه حتى تغلبوه بالحجة، فأجمعوا له الفقهاء، و اعملوا له مجلسا، فإن أنتم غلبتموه و شهد الناس بأنكم غالبون عليه قتلته، و إن هو غلبكم، و الله لأمشين  عليكم بالسيف حتى لا نبقي منكم أحدا على الأرض، قالوا نعم، فجمعوا له الفقهاء من الشام و اليمن و العراق و الأمصار، فلما اجتمع الفقهاء في ذلك حتى لم يبق في الجوانب الأربع من يعرف مسألة في دينه إلا حضر.

   فلما اجتمع الفقهاء في المجلس بعث الملك إليه، فأتى هو و أصحابه إلى باب القصر، فدخل الجنيد و ترك أصحابه، و أدى حق الخليفة، يعني التحية من التعظيم و قعد، فقام إليه أحد الفقهاء يسأله في مسألة، فسمعه القاضي علي بن أبي ثور، فقال لهم: تسألون الجنيد، فقالوا نعم، فقال لهم: أفيكم من هو أفقه منه، فقالوا لا، فقال يا عجبا، هو أفقه منكم في علمكم، و قد تفقه في علم تنكرونه عليه، يعني لا تعرفونه، فكيف تسألون رجلا لا تدرون ما يقول، فبهت القوم و سكتوا زمانا ثم قالوا: ما العمل يا قاضي المسلمين، فأشر بما شئت فنصنع فأمرك مطاع، قال: فرد القاضي وجهه إلى الأمير و قال له: اترك الجنيد و أخرج إلى أصحابه صاحب سيفك، و هو الوليد بن ربيعة، ينادي فيهم: من يقوم إلى السيف، فأول من يقوم إليه نسأله، فقال الملك، يرحمك الله، لم ذلك، تروع القوم، و لم تظهر لكم حجة، لا يحل لنا ذلك، فقال القاضي: يا أمير المؤمنين، إن الصوفية يحبون الإيثار حتى على أنفسهم بأنفسهم، فأذن من ينادي: أيكم يقوم إلى للسيف؟ فالرجل الذي يقوم مبادرا إلى السيف هو أكثر الناس جهلا، و أكثرهم صدقا لله عز و جل، فيقوم يؤثر أصحابه بالعيش عليه، فإذا قدم أجهلهم علينا، جعلنا الفقهاء يناظرونه فيما يطلبونه منه، فإن الفقهاء لا يغلبونه و لا يغلبهم، فيقع الصلح بيننا و بينهم، فإنها قد نزلت مصيبة عظيمة لا ندري لمن يقع النجاة منها، فإنه إن قتل الجنيد نزلت داهية في الإسلام، فإنه قطب الإيمان في عصرنا، و إن قتل العلماء و الفقهاء فهي مصيبة عظيمة، فقال له الأمير: لله درك لقد أصبت.

   ثم عطف على الوليد، و قال افعل ما يقول لك القاضي، فخرج الوليد و هو مقلد سيفه، فوقف على المريدين، و هم مائتان و سبعون رجلا، قعودا ناكسين رؤوسهم و هم يذكرون الله، فنادى فيهم، أفيكم من يقوم إلى السيف، فقام إليه رجل يقال له أبو الحسن النوري، فقال الوليد: ما رأيت طائرا أسرع منه، فوثب قائما بين يدي، فعجبت من سرعة قيامه فقلت: يا هذا أعلمت لما قمت؟ فقال نعم، ألم تقل أفيكم من يقوم إلى السيف فقلت له نعم قال: علمت أن الدنيا سجن المؤمن، فأحببت أن أخرج إلى دار الفوز، و أن أوثر أصحابي عليّ بالعيش، و لو ساعة، و لعلي أقتل فيطفي الشربي فيسلم جميعهم و لا يقتل أحد غيري، قال الصاحب، فعجبت من فصاحته فقلت أجب القاضي.

   فتغير لونه و سالت عبرته على خده فقال، أودعاني القاضي قلت: نعم دعاك، قال : فحقا عليّ إجابته، فدخلت و هو معي، فأخبرت الملك و القاضي بقصته فتعجبا منها، و يسأله القاضي عن مسألة غميضة، فقال: من أنت ، و لم خلقت، و ما أراد الله بخلقك، و أين هو ربك منك، فقال: و من أنت الذي تسأل، قال أنا قاضي القضاة، قال: إذن لا رب غيرك و لا معبود سواك أنت قاضي القضاة، و هذا يوم الفصل، و القضاة و الناس قد حشروا ضحى، فأين النفخة في الصور التي قال الله فيها( و نفخ في الصور فصعق من في السماوات و الأرض إلا من شاء الله) أنا ممن صعق أم أنا ممن شاء الله الذي لم أشهد النفخ، فبهت القاضي زمانا و قال: يا هذا أجعلت مني إلها قال: معاذ الله بل أنت الذي تألهت حيث تسميت بقاضي القضاة، أضاقت عليك الأسماء، أما كفاك قاضي المسلمين، أو أحد الفقهاء، أم أحد من عباد الله، حتى تسميت بقاضي القضاة إذ استكبرت أن تقول أنا علي بن أبي ثور، فما زال يقرعه حتى بكى القاضي، و همّ أن تزهق نفسه و بكى الملك لبكائه و بكى الجنيد فقال لتلميذه: اقصر من عتابك للقاضي فقد قتلته، فخل سبيله، فلما أفاق القاضي قال: يا أبا الحسن أجبني عن مسألتي، و أنا أتوب إلى الله بين يديك، فقال اذكر مسألتك فإني نسيتها، فأعاد عليه السؤال، فنظر عن يمينه و قال أتجاوبه ثم قال حسبي الله، ثم فعل عن يساره مثل ذلك، ثم نظر أمامه و قال أتجاوبه ثم قال الحمد لله، ثم رفع رأيه إلى القاضي و قال له:

   أما قولك يرحمك الله من أنت؟ فأنا عبد الله لقوله تعالى:( إن كل من في السماوات و الأرض إلا آتي الرحمن عبدا) و اما قولك لما خلقت، فكان الله كنزا لا يعرف فخلقني لمعرفته قال تعالى: ( و ما خلقت الجن و الانس إلا ليعبدون) أي ليعرفون كذا قال ابن عباس و غيره، و أما قولك ما أراد الله بخلقي، فما أراد بي إلا كرامتي قال تعالى:( و لقد كرمنا بني آدم) و أما قولك أين ربك منك، فهو مني حيث أنا منه لقوله تعالى: ( و هو معكم أينما كنتم).

   فقال أخبرني كيف هو معك و معنا في قوله تعالى: و هو معكم أينما كنتم، قال: هو معنا كيف ما كنا معه، فإن كنا معه بالطاعة كان معنا بالعون و الهدى إليه، و إن كنا معه بالغفلة كان معنا بالمشيئة، و إن كنا معه بالمعصية كان معنا بالتمهل، و إن كنا بالتوبة كان معنا بالقبول، و إن كنا بالترك كان معنا بالعقاب.

  قال: صدقت، فأخبرني أين هو مني، قال: فأخبرني أين أنت منه أعلمك أين هو منك، قال صدقت يا علي فيما قلت، و لكن أخبرني بمسألة ثانية قال: و ما هي، قال: لم ملت عن يمينك حين سألتك قال: أعز الله الفقيه، إن المسألة التي سألتني عنها لم يكن عندي فيها جواب، لأنني ما سئلت فيها قط و لا سمعتها، فلما سألتني عنها لم يكن عندي ما أخبرك به فيها، فسألت الملك الكريم الذي يكتب في اليمين فقلت أتجاوبه أنت فقال لا علم لي، فقلت حسبي الله و فوضت أمري إلى الله، قال و عن شمالك، فقال كذلك، قال و أمامك قال سألت قلبي فقال عن سره عن ربه ما أجبتك به، فقلت الحمد لله شاكرا على الهداية و مقرا له بالعجز عن إدراك النهاية، فقال له: يا هذا أتكلمك الملائكة، فقال له ويحك أما ترى رب الملائكة كلمني حين هداني لحجتي و كنت لا أعرفها.

   فقال له: يا هذا الآن قد صح عندي حمقك و ثبت لدي كفرك و زندقتك، فما تريد أن أفعل بك، و بأي قتلة تريد أن أقتلك، فقال: و ما الذي تريد أن تفعل بي و أنت قاضي القضاة إن كنت تقضي و لا يقضى عليك، فاقض بما شئت و أي فعل لك، فقال له: أنا القاضي المقتضى بما يقضي به، أو نقضي بما يقضي به، فقال له: أو فهمت خطاب القاضي الذي يقضي و لا يقضى عليه قال له: و ما هو، قال: قوله تعالى:( فاليوم لا تظلم نفس شيئا و لا تجزون إلا ما كنتم تعملون) فقال له: و ما تريد أنت اقض بما شئت الآن طبت و طابت نفسي على لقاء ربي، فعند ذلك رد القاضي رأسه إلى المتوكل و قال له:

   يا أمير المؤمنين، اترك هؤلاء، فإن كان هؤلاء زنادقة فلا يوجد على وجه الأرض مسلم، هؤلاء مصابيح الدين و دعائم الإسلام، و هؤلاء المؤمنون حقا، عباد الله المخلصون.

   فعند ذلك عطف الملك على الجنيد و قال يا أبا القاسم، هؤلاء الفقهاء ما جمعوا هذا المجلس العظيم، و استعدوا لمناظرتك إلا ليقتلوك لو غلبوك، و الآن أنت الغالب عليهم، و أنا آليت على نفسي إن أنت غلبتهم أن أمشي عليهم السيف، فإما أن تعفو عنهم و إما أن يموتوا، فقال العياذ بالله يا سيدي أن يموت أحد بسببي عفا الله عنا و عنهم، و لا آخذ عليهم في إنكارهم علينا لأنهم ما ساقهم لذلك إلا الجهل و قلة العلم بما طلبوا، عفا الله عنا و عنهم، فانحل المجلس على سلام و لم يمت فيه أحد و الحمد لله، ثم عطف القاضي على النوري و قال له: يا علي أعجبني حالك، و الله  شهيد أني أحبك، و لكني أسألك سؤال رجل مسترشد فارشدني يرحمك الله، فقال سل عما بدا لك، فإن كان عندي جواب أخبرتك و إلا قلت لك لا علم لي و لا يعظم ذلك عليّ، ثم سأله عن مسائل عديدة قد تقدم بعضها عند قوله: يا عجبا كيف يظهر الوجود في العدم فراجعها إن شئت، و تركت الباقي لكثرة التصحيف في النسخة التي وقعت بأيدينا، و الله تعالى أعلم.

   فهذه محنة الصوفية التي وقعت في زمن الجنيد، و هذه سنة الله في أوليائه و أنبيائه، هم أشد الناس بلاء، و انظر أيضا قضية القطب الشهير، شيخ أشياخنا الشيخ ابن مشيش، فقد مات مقتولا كما هو معلوم، و كذلك قضية تلميذه مع القاضي ابن البراء حيث أخرجه من تونس و كتب به إلى عامل مصر، و عمل به بينة انه مشوش و أنه يطلب الملك، فانتصر الله له كما هو شأنه سبحانه مع أوليائه.

   و كذلك قضية الغزواني، فإنه لما كملت تربيته و ظهر رشده أرسله شيخه الشيخ التباع يعمر بلده، فسكن بني زكار جوار ضريح الشيخ بن مشيش، فلما عمر سوقه و انكبت عليه المخلوقات سعي به إلى السلطان المريني، فأرسل إليه الحرس، و أطلعوه مكبلا إلى العرائش، لأن السلطان كان هناك نازلا، فأرسل به إلى فاس، فسجن أربعة أشهر أو سنة حتى قدم السلطان إلى فاس، فأطلقه و شرط عليه السكنى بفاس، فسكن معه، فلما قرب انقراض مدة المرينيين خرج إلى مراكش، و قال: ذهبت دولة بني مرين و بقي بمراكش حتى توفي رضي الله عنه.

   و ذكر التجيبي أن الشبلي رفع إلى السلطان، و أخرج أبو يزيد إلى مدينة بسطام مرارا، و هذا أمر شهير، قال بعض الحكماء: إذا أراد الله ظهور الحق جعل من خلقه من يعانده و يريد إخماده، فيكون ذلك سببا لظهوره و إيضاحه، و لذلك سلط الله على كل نبي عدوا من المجرمين، و على الأولياء كذلك و أنشــدوا:

و إذا أراد الله نشـر فضيلــــة            طويت أتـاح لها لسـان حسـود

لولا اشتغـال النـار فيما جـاورت            ما كان يعرف طيب عرف العـود

   و إنما أطلنا هذا النفس لأن الحال اقتضى هنا ذلك، لأن وقت التأليف صادف عنفوان الجلال، و الله يرزقنا التأييد نحن و أحباؤنا و من تعلق بنا بجاه المصطفى و آله، و علامة التأييد هو حفظ التوحيد في أوقات الشدة، بحيث يكون إبراهيميا، فإذا رمي في نار الجلال و تعرض له الكون يقول له: ألك حاجة، يقول له العارف: أما إليك فلا، و أما لله فبلى، فحينئذ يقول الله لنار الجلال، يا نار كوني بردا و سلاما على وليي، فينقلب حرها بردا و سلاما، قال سيدنا إبراهيم الخليل: ما رأيت نعيما قط مثل تلك الأيام التي كنت فيها في النار.

   قلت: و كذلك نار الجلال ليس يشبهها نعيم حين تنقلب بردا و سلاما، برد الرضا و سلام التسليم، فيكمل النعيم.

   و اعلم أن إذاية الخلق هي إحدى القواطع التي قطعت الناس عن الولاية، لا يصبر عليها إلا الصديقون، فذكر الشيخ حكمة ذلك و سره، و من القواطع أيضا الشيطان و النفس، فأشار إلى كيفية دفع إذاية الشيطان في الباب الموالي. 

من غفل عن الرحمن، وقع في يد الشيطان

 

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire