قربك منه، أن تكون مشاهدا لقربه، و إلا فمن أين و وجود قربه.

   قلت: إذا حققت أن الأكوان ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته، علمت علم يقين أن الأكوان و المكان و الزمان لا وجود لها، و إن الحق كما كان وجوده وحده، و لا أين و لا مكان و لا زمان، نور أحديته محى وجود الأكوان، فانتفى بوجوده الزمان و المكان، و لم يبق إلا الواحد المنان.

   و في البخاري عن رسول الله صلى الله عليه و سلم، يقول الله تعالى: يسب ابن آدم الدهر، و أنا الدهر، بيدي الليل و النهار،

   فالوجود الحقيقي إنما هو لذاته و أثر صفاته، تجلى و استتر فيما ظهر، فإذا علمت هذا علمت أنه تعالى قريب من كل شيء، محيط بكل شيء، و لا شيء، إلا الذي ليس كمثله شيء، لكن حكمة الحكيم أثبتت الحادث و القديم، فمن فتح الله عين بصيرته شهد عدمه لوجوده سبحانه، فأبصر الحق محيطا به، و ماحيا لوجوده، و من طمس الله عين بصيرته لم ير إلا الفرق و لم يدرك إلا البعد، فإذا أراد أن يقربه إليه فتح شعاع بصيرته، فيبصر الحق قريبا منه، و محيطا به.

   روي أن الشيخ أبا الحسن رضي الله عنه قال يوما بين يدي أستاذه: اللهم اغفر لي يوم لقائك، فقال له شيخه: هو أقرب إليك من ليلك و نهارك، و لكن الظلم أوجب الظلال، و سبق القضاء حكم بالزوال عن درجات الأنس و منازل الوصال، و للظالم يوم لا يرتاب فيه و لا يحتال، و السابق قد وصل إلى الحال، أسمع بهم و أبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ظلال مبين/.

   كلامه رضي الله عنه، معنى قربك من الحق أن تكون مشاهدا لقربه منك، قرب وجود و إحاطة، و ذلك بعد أن تلطفت عوالمك، و فنيت دائرة حسك، و حينئذ يتحقق قربك منه، قال تعالى: ( أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد)، و إذا لم تعتقد هذا، و اعتقدت وجود نفسك و ثبوت حسك الوهمي، فلا تشاهد إلا البعد، فأين أنت و وجود قربك الحسي من نوره اللطيف حتى تراه بعين الحس، فما دمت في عالم الأشباح فأنت بعيد عن عالم الأرواح في حال قربك منه كما قال القائل:

و مـن عجـب أنـي أحـن إليهـم           و أسـأل شـوقا عنهـم و هـم معــي

و تبكيهـم عينـي و هم بسوادهــا           و يشكو النـوى قلبي و هم بيـن أضلعـي

 

   سبحان من بعد قوما في حال قربهم، و قرب قوما من غير بعدهم، و راجع ما تقدم لنا في الشرح عند قوله: شعاع البصيرة تفهم المسألة عن أصلها، و حق هذه الحكمة أن تتقدم على التي قبلها، لأن القرب سابق على الوصول، و لِما ترتب على ذكر الوصول من ذكر الواردات و الأمر قريب و الله تعالى أعلم.

   و قال الشيخ زروق رضي الله عنه في شرح هذه الحكمة: القرب في الجملة على ثلاثة أوجه:

   أحدها قرب الكرامة، و هو تقريب الحق عبده حتى يكون مشاهدا لقربه منه، فيتولاه دون ما سواه.

   ثانيها، قرب الإحاطة، إحاطة العلم و القدرة و الإرادة، و عموم التصوف، و هذا هو قرب الحق من عبده.

   الثالث، هو قرب المناسبة و المسافة، و لا يصح في جناب الربوبية لاستحالة المسافة عليه، و نفي مناسبة العبد للرب، فتقدير الكلام قربك منه على وجه الكرامة أن تكون مشاهدا لقربه منك على وجه الإحاطة، و إلا فمن أين أنت و وجود قربه على وجود التناسب و المسافة/.

   و إنما نقلته لعلمي أن الكتاب يطالعه من يحسن العوم، و من لا يحسنه، فإذا خاف البحر وجد جزيرة يأوي إليها و بالله التوفيق.

   و من حصل على مقام القرب و الوصول ترد عليه الحقائق العرفانية و الأسرار الربانية و العلوم اللدنية، تارة ترد مجملة ثم يقع التفصيل و تارة مفصلة و هو غالب واردات أهل التمكين، و الغالب أن هذه الواردات إنما ترد بعد الفتح و الوصول، و لذلك قلنا: الأحسن لو قدم الشيخ مقام القرب، ثم يذكر مقام الوصول ليتصل بهذه الحكمة التي تكلم بها على الواردات حيث قال:

 

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire