الحقائق ترد في حال التجلي مجملة و بعد الوعي يكون البيان، فإذا قرأناه فاتبع قرآنه، ثم إن علينا بيانه.
قلت: الحقائق هي ما يرد على قلب العارف من تجليات العلوم و الحكم و المعارف، فتارة تكون علوما و تارة تكون حكما و معارفا، و تارة تكون كشفا بغيب كان أو سيكون، و حكمة ذلك، الروح إذا تخلصت و تصفت من غبش الحس، كان غالب ما يتجلى فيها حقا، ثم إن هذه الحقائق قد ترد في حال التجلي مجملة فيقيدها الإنسان كما تجلت، ثم يتفكر فيها، فيتبين معناه، فبعد الوعي و هو الحفظ يكون البيان، ثم استدل بآية الوحي على أربعة أقسام: وحي إلهام، و وحي منام، و وحي إعلام، و وحي أحكام، فشاركت الأولياء الأنبياء في ثلاثة: وحي إلهام و و حي منام و وحي إعلام، و هو الفهم عن الله، و انفردت الأنبياء بوحي الأحكام.
فالأولياء لهم وحي الإلهام، و يكون أولا مجملا في القلب، فإذا قرأه و أظهره تتبعه و بينه قال تعالى:( فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) كما قرأناه عليك، ثم إن علينا بيانه، حتى تفهمه و تبينه للناس، كان عليه السلام يعالج من التنزيل شدة مخافة أن ينساه، فلما نزلت الآية كان يستمع لجبريل، فإذا فرغ قرأه كما أنزل، فالوحي الذي هو وحي أحكام مصون، فلا ينسى بخلاف وحي الإلهام، فذلك ينبغي للولي أن يقيد تلك الواردات قريبا، فإن الحكمة في حال التجلي تكون كالجبل، فإذا غفل عنها ترجع كالجمل، فإذا غفل عنها ترجع كالثور ثم كالكبش ثم كالبيضة، ثم تغيب، و لذلك كان شيخ شيوخنا سيدي علي رضي الله عنه لا تفارقه الدواة و القلم و القرطاس ليقيد المواهب، و كذلك كان أشياخنا يأمرون بذلك.
قلت: و جل هذا الشرح الذي نقيده إنما هو مواهب، لأني أكتب الحكمة و لا أدري ما أكتب، فأقف مفتقرا إلى ما عند الله، فإذا ورد شيء من عند الله كتبته أولا، ثم أنظر في كتب القوم، فإن وجدت نقلا غريبا موافقا لما أفاض الله عليّ كتبته و إلا تركته و اكتفيت بما أتى الله، و كثيرا ما نكتب الكلام ثم نطالعه و نستغرب أني كتبته أو صدر مني، و ذلك كله ببركة أشياخنا، فجزاهم الله عنا خير الجزاء، و لقد كنت في حال الرياضة و المجاهدة، إذا أردت أن نتكلم في التفسير أو غيره نشرع في الكلام ثم نغيب، فكنت نحس بالكلام يخرج مني من غير اختيار كأنه السحاب، فتصدر مني علوم و حكم، فإذا سكتت لم يبق منها إلا القليل.
و لقد حضر معنا يوما رجل صالح كبير السن فسمع ذلك فقال: و الله لقد حضرت مجالس العلماء و الصالحين، و الله ما رأيت مثل هذه الجواهر و اليواقيت التي تخرج من سيدي فلان، فبقيت كذلك مدة إلا أنني لم نكن نقيد شيئا ثم انتقل ذلك إلى حال التقييد، فصار القلم عندي أفصح من عبارة اللسان.
و كان بعض العارفين يقول لأصحابه: إذا كنت أتكلم عليكم أكون أستفيد من نفسي ما يجريه الله على لساني كما تستفيدون أنتم مني، و في ذلك يقول ابن الفارض رضي الله عنه:
و لا تـك ممـن طيشتـه طروسـه بحيث استخفـت عقلــه و استفـزت
فثم وراء النقـل علــم يدق عـن مـدارك غايـات العقـول السليمــة
تلقيتـه مني و عـني أخذتــــه و نفسي كانت مـن عطائـي ممدتـي
و كان الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه إذا استغرق في الكلام، و فاضت عليه العلوم يقول: هلا رجل يقيد عنا هذه الأسرار، هلموا إلى رجل صيره الله بحر العلوم، أو كلاما نحوه، و كان يحضر مجلسه أكابر وقته كعز الدين بن عبد السلام و ابن الحاجب و ابن عصفور و ابن دقيق العيد و عبد العظيم المنذري، و كان عز الدين بن عبد السلام إذا سمع كلامه يقول: هذا كلام قريب عهد بالله، و كان ابن دقيق العيد يقول: و الله ما رأيت أعرف بالله من أبي الحسن الشادلي رضي الله عنه، و كان في كل سنة يطلع إلى القاهرة و يجتمع عليه مشايخ القاهرة و مصر و من تلك الناحية، فيفيض عليهم بالعلوم و المواهب الربانية و الأسرار اللدنية.
فلما مات رضي الله عنه، و استخلفه أبو العباس المرسي، جعل يطلع إلى القاهرة كما كان يفعل شيخه، فاجتمع عليه جماعة من أكابر مصر و علمائها و قالوا: يا شيخ، كان الشيخ أبو الحسن، إذا جاء إلى هذا الموضع يجيء عندنا، و نتبرك بقدومه و ما نسمع منه من مواهب الله تعالى، و أنت قد أقامك الله مقامه، فنحب أن نتبرك بكلامك فقال لهم: إذا كان صبيحة غد نجيء إليكم إن شاء الله، فلما كان صبيحة غد أمر أصحابه بالمسير إلى مصر، و أمر بحمل رسالة القشيري رضي الله عنه، قال ابن الصباغ: فحملتها، و وصلنا إلى جامع عمرو بن العاص، فوجدناه قد امتلأ بأكابر أهل مصر و علمائها، فقال لي منتقد و معتقد، قال: فجلسنا بشرقي الجامع، فقال أخرج رسالة القشيري فأخرجتها، فقال إقرأ فقلت و ما أقرأ، قال الذي يظهر لك، ففتحنا الكتاب، فوجدنا باب الفراسة، فقرأت أول الباب، فلما فرغت من حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لي: أغلق الكتاب، ثم قال: الفراسة تنقسم إلى أربعة أقسام، فراسة المؤمنين و فراسة الموقنين و فراسة الأولياء و فراسة الصديقين، فأما فراسة المؤمنين فحالها كذا و مددها من كذا ثم تكلم بكلام عظيم، ثم انتقل إلى فراسة الموقنين فتكلم بطبقة أعلى ثم قال، و أما فراسة الأولياء فمددها من كذا و حالها من كذا و تكلم في ذلك بكلام موهوب غير مكسوب أذهل عقول الحاضرين و استغرق في ذلك إلى آذان الظهر، و الناس يبكون، و رأيت العرق ينحذر من جبينه حتى ينحذر على لحيته و كانت لحيته كبيرة/.
و قال في لطائف المنن: و كنت أنا لأمره من المنكرين و عليه من المعترضين، لا لشيء سمعته منه و لا لشيء صح نقله عنه، حتى جرت مقاولة بيني و بين بعض أصحابه، و ذلك قبل صحبتي إياه، و قلت لذلك الرجل: ليس إلا أهل علم الظاهر، و هؤلاء القوم يدعون أمورا عظاما، و ظاهر الشرع يأباها، فقال لي ذلك الرجل، بعد أن صحبت الشيخ تدري ما قال لي الشيخ يوما تخاصمنا، قلت لا، قال: دخلت عليه فأول ما قال لي: هؤلاء كالحجر، ما أخطأك منه خير مما أصابك، فعلمت أن الشيخ كوشف بنا قال: و لعمري لقد صحبت الشيخ اثني عشر عاما فما سمعت منه شيئا ينكر ظاهر العلم من الذي كان ينقله عنه من يقصد الأذى، و كان سبب اجتماعي به أن قلت في نفسي بعد أن وقعت المخاصمة بيني و بين ذلك الرجل دعني أذهب، فأرى هذا الرجل، فصاحب الحق له أمارة لا يخفى شأنها، فأتيت إلى مجلسه فوجدته يتكلم في الأنفاس التي أمر الشارع بها فقال: الأول إسلام و الثاني إيمان و الثالث إحسان، و إن شئت قلت: الأول شريعة و الثاني حقيقة و الثالث تحقق، أو نحو هذا، فما زال يقول: و إن شئت قلت و إن شئت قلت، إلى أن أبهر عقلي، و علمت أن الرجل إنما يغرف من فيض بحر إلهي، و مدد رباني، فأذهب الله ما كان عندي إلى آخر كلامه.
فهذه الحقائق التي يفيضها الحق تعالى على قلوب أوليائه فينطقون بها تكون أولا مجملة، فإذا حفظت و تقيدت تبين معناها، فمنها ما تدركه العقول و يطابق المنقول، و منها من لا تفهمه العقول فتكلها إلى أربابها و لا تنتقدها عليهم بمجرد سماعها، و انظر قول ابن الفارض رضي الله عنه:
فثم وراء النقـل علـم يـدق عـن مـدارك غايـات العقـول السليمــة
و مع هذا كان الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه يقول: إذا عارض كشفك الصحيح الكتاب و السنة فدع الكشف، و قل لنفسك: إن الله تعالى ضمن لي العصمة في الكتاب و السنة، و لم يضمنها لي في جانب الكشف و الإلهام، و مثل هذا أيضا قول الجنيد: إن النكتة لتقع في قلبي من جهة الكشف، فلا أقبلها إلا بشاهدي عدل: الكتاب و السنة، و لا يلزم من عدم العمل بها انتقادها على أهلها، فإن العلم واسع له ظاهر و باطن، و مسائل الإلهامات تارة ترد على حسب العلم الظاهر وتارة ترد على حسب العلم الباطن، فإن لم تفهم فسلم و دع ما لا تعرف لما تعرف، و كان الشيخ أبو الحسن الشاذلي يقول: من آداب مجالسة الصديقين أن تفارق ما تعلم لتظفر بالسر المكنون/.
يعني إن أردت أن تظفر بما عندهم من السر المكنون فاسقط عنهم الميزان في أقوالهم و أفعالهم و أحوالهم، و أما ما دمت تزن عليهم بميزان عملك فلا تشم رائحة من سرهم.
و كان شيخ شيوخنا سيدي علي رضي الله عنه يقول: طريقتنا لا ينال منها شيئا إلا من يصدق بالمحال، و إن أردت يا أخي أن يصب عليك نسيم أسرارها و نفحات مواهبهم فدع ما تعرف إلى ما لا تعرف و اغتسل من عملك.
و لقد حدثني من أثق به: أن الشيخ أبا الحسن رضي الله عنه طلع إلى الشيخ ابن مشيش رضي الله عنه بالميزان فلم يشم رائحة الولاية، فرجع ثم طاع ثانيا كذلك فرجع كما طلع، فلما أسقط الميزان و اغتسل من علمه و عمله و طلع فقيرا أغناه الله، قال له الشيخ ابن مشيش: يا أبا الحسن، طلعت إلينا فقيرا من علمك فأخذت منا غنى الدارين/.
نفعنا الله بذكرهم و نفع علينا ما نفع عليهم حتى نستغني بهم عمن لا فقر معه أبدا، آمين..
من خصائص الواردات هدم التقاليد و العادات
ثم إن هذه الواردات التي تتجلى بالحقائق و العلوم إنما هي واردات أهل النهاية، و أما واردات أهل البداية، فإنها تأتي قويه قهارية إما بخوف مزعج أو شوق مقلق، لترحله عن شهوته و عوائده، و هي التي ذكرها الشيخ بقوله:
0 Commentaire(s)