ربما وردت الظلمة عليك ليعرفك قدر ما به عليك.

   قلت: لا شيء أن نيل الشيء بعد الطلب ألذ أعز من المساق بغير تعب، و المحبة بعد القطيعة أحلى من المحبة بلا قطيعة، و الصفاء بعد الجفاء أصفى من الصفاء بلا جفاء، و فطام النفس على مألوفاتها و عوائدها أشد معالجة من النفس السلسة المنقادة من غير تعب، فيكون الأجر أو القدر على قدر التعب، فهذه حكمة ورود الغفلة و الشهوة على العبد، ثم ينقذه منها، ليعلم قدر هذه النعمة التي انعم الله بها عليه.

   فربما أورد عليك أيها الإنسان الحق تعالى الظلَم، و هو جمع ظلمة، و هي الأغيار و الأكدار و حب الشهوات و العوائد، فتغرق في بحارها، و تسجن في سجون ظلماتها، ثم ينقذك منها في ساعة واحدة، و ذلك لتعرف بعد الفتح قدر ما منّ الله به عليك، فتزداد محبة و شكرا، و يعظم السر عندك محلا و قدرا، فاعرف حقه و تصونه عمن لا يستحقه، و لأجل هذا جعل الله الجنة محفوفة بالمكاره، ليعرف العباد بعد دخولها قدر النعمة التي منّ الله بها عليهم، و كذلك جنة العارف محفوفة بالمكاره، ليعرف العارف قدر السر الذي كشف به و الخير الذي منحه الله إياه.

   و اعلم أن هذه الظلَم التي ترد على القلوب فتحجبه عن علام الغيوب هي ناشئة بحكمة الله من الدنيا و النفس و الشيطان، فمن زهد في الدنيا و غاب عن نفسه، و أطلق يده منها، و ذكر الله حتى احترق الشيطان و ذاب، دخل مع الأحباب، و فتح له في علم الغيوب الباب.

   قال بعض الحكماء: و اعلم أن الصانع البديع سبحانه، لما خلق القلب جعله خزانة أسراره و معدن أنواره، و موضع نظره من عبده، و لم يخلق الله في الوجود أشرف منه، ثم رمى على القلب أخس الأشياء و أقذرها، لتقتضي حكمته اجتماع الأضداد التي لا قدرة لغيره على ذلك، فطرح على القلب جيفة و كلب ينهش فيها، و هما الدنيا و الشيطان، فمن أراد الدخول لخزانة سر الله لا بد له من تغميض عينه عن هذه القذرة و إعراضه عن هذا الكلب، لأنه لا سبيل له على من أعرض عنه و عن جيفته، كل من التفت إليها سلب النور الذي أراد الله به الدخول لبيت قلبه، و كان له ذلك كالطلسم على الكنز، منعه منه لا محالة/.

  و قيل: إن الدنيا بنت إبليس، و طالب الدنيا صهر إبليس، و الأب لا ينفك عن ابنته أبدا ما دامت البنت في عصمة الصهر.

   و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:" إذا أراد الله بعبده خيرا زهده في الدنيا، و رغبه في الأخرى و بصره بعيوب نفسه" قيل يا رسول الله أي الناس شر، قال: " الأغنياء" يعني البخلاء، ثم قال عليه السلام:" و من عظم غنيا لأجل غناه كان عند الله كعابد وثن، و من أسف على دنيا فاتته اقترب من النار مسيرة سنة"

   و أوحى الله إلى موسى عليه السلام، ما أحبني من أحب المال، و ما أحبني من أحب الدنيا، فإنه لا يسع في قلب واحد حبي و حبها أبدا، يا موسى ما خافني من خاف الخلق، و ما توكل عليّ من خاف فوات الرزق، و عزتي و جلالي ما توكل عليّ عبد إلا كفيته، و بيدي مفاتيح الملك و الملكوت، و ما اعتصم بي عبد إلا أدخلته الجنة، و كفيته كل مهمة، و من اعتصم بغيري قطعت عنه الأسباب من فوقه، و أسخت الأرض من تحته، و لا أبالي كيف أهلكته.

   يا موسى خمس كلمات ختمت لك بها التواراة، إن عملت بهن نفعك العلم كله، و إلا لم ينفعك منه شيء:

   الأولى: كن واثقا برزقي المضمون لك ما دامت خرائني مملوءة، و خزائني مملوءة لا تنفذ أبدا.

   الثانية: لا تخافن ذا سلطان ما دام سلطاني قائم، و سلطاني قائم لا يزول أبدا.

   الثالثة: لا تر عيب غيرك ما دام فيك عيب و العبد لا يخلو من عيب أبدا.

   الرابعة: لا تدع محاربة الشيطان ما دام روحك في بدنك فإنه لا يدع محاربتك أبدا.

   الخامسة: لا تأمن مكري حتى ترى نفسك في الجنة، و من الجنة خرج آدم فلا تأمن مكري أبدا 

      قلت: و هذا كله تشريع لغيره، و الأنبياء كلهم مطهرون معصومون، و كل ما ورد فيهم من التعليم و التربية، فالمراد به غيرهم و بالله التوفيق.

من لم يعرف النعم بوجودها، عرفها بعد فقدانها

      ثم من منّ الله عليه فأخرجه من أسر نفسه، و أطلقه من سجن غفلته فلم يعرف قدر هذه النعم سلبها من ساعته كما أشار إلى ذلك بقوله:

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire