من لم يعرف قدر النعم بوجدانها عرفها بفقدانها.

   قلت: هذا الذي ذكره الشيخ مجرب صحيح، و ذلك أن العبد قد تترادف عليه النعم و العوافي، فلا يعرف قدرها و لا تعظم عنده كل التعظيم، فإذا سلبها و ضرب بالبلاء و الأوجاع و المصائب، فحينئذ يعرف قدر العافية، و كذلك الفقير يكون مصحوبا بالحضور و الفكرة و النظرة، فلا يعظم عنده قدرها، فإذا أصابته الغفلة و رجع إلى الحس، و فقد قلبه، عرف قدر ما كان عنده، فإذا التجأ و اضطر إلى الله رد إليه ما سلبه.

   قيل: إن الله يقول يا جبريل، انسخ حلاوة محبتي من قلب عبدي أختبره، فينسخ جبريل حلاوة المحبة من قلب ذلك العبد، فإن اضطرب و تضرع و التجأ و بكى يقول الله تعالى لجبريل: ردّ عليه حلاوة محبتي فقد وجدته صادقا، و إذا نسخ حلاوة المحبة من قلب العبد، فلم يبتهل و لم يتضرع لم يرد إليه شيئا، و سلبه تلك الحلاوة و العياذ بالله من السلب بعد العطاء.

   و يستعين العبد على معرفة قدر النعم بالتفكر فيها، و التفكر في حال نفسه قبل وجودها، فلينظر إذا كان غنيا إلى حال فقره المتقدم حسا أو معنى، و ينظر إذا كان صحيحا إلى حال مرضه، و ينظر إذا كان عالما إلى حال جهله، و ينظر إذا كان طائعا إلى حال عصيانه، و ينظر إذا كان ذاكرا إلى حال غفلته، و ينظر إذا كان مصاحبا لشيخ عارف إلى زقت ضلالته، و ينظر إذا كان عارفا إلى وقت جهالته، و هكذا كل النعم ينظر إلى ضدها الذي كان موجودا فيه قبل ذلك، فلا شك أنه يعرف قدرها، فيشكرها فتدوم عليه.

   و أما من لم يتفكر في حال النعم، فلا يعرف قدرها فيغفل عن شكرها، فيسلب منها و هو لا يشعر، قال بعضهم:

  شكر الله باللسان هو الاعتراف بالنعمة على وجه الخضوع، و شكر الله باليد هو الاتصاف بالخدمة على وجه الإخلاص، و شكر الله بالقلب هو مشاهدة المنة و حفظ الحرمة.

   و قال الجنيد رضي الله عنه: ألا ترى نفسك أهلا للنعمة، و ألاّ تعصي الله بنعمته/.

   فإن قلت: و كيف أقوم بشر النعم و هي لا تحصى، قلت: القيام بها هو الاعتراف بها للمنعم وحده، و إلى هذا أشار بقوله:

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire