الغافل إذا أصبح ينظر ماذا يفعل، و العاقل إذا أصبح ينظر ماذا يفعل الله به.

قلـت: الغافل هو الجاهل بالله، و لو كثر ذكره باللسان، و العاقل هو العارف بالله و لو قل له ذكر اللسان، إذ المعتبر هو ذكر الجنان، فالغافل نفسه موجودة، و آماله ممدودة، إذا أصبح نظر ماذا يفعل بنفسه فيدبر شؤونه و مأربه بعقله و حدسه، فهو ناظر لفعله معتمد على حوله و قوته، فإذا أفسخ القضاء ما أبرمه، و هدم له ما أمله غضب و سخط و حزن و قنط، فنازع ربه و أساء أدبه، فلا جرم أنه يستحق من الله البعد، و يستوجب في قلبه الوحشة و الطرد، إلا إن حصل له إياب، و أدام الوقوف بالباب حتى يرفع عنه الحجاب، فحينئد يلتحق بالأحباب..

و أما العاقل و هو العارف فقد تحققت في قلبه عظمة ربه، و انجمع إليه بكلية قلبه، فأشرقت في قلبه شموس العرفان، و طوى في نظره وجود الأكوان، فليس له عن نفسه أخبار، و لا مع غير الله قرار، تصرفه بالله و من الله و إلى الله، فقد فني عن نفسه و بقي بربه، فلم ير لها تركا و لا فعلا و لا قوة و لا حولا، فإذا أصبح نظر ماذا يفعل الله به، فيتلقي كل ما يرد عليه بالفرح و السرور و البهجة و الحبور، لما هجم عليه من حق اليقين و الغنى برب العالمين..

قال سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: أصبحت و ما لي سرور إلا مواقع القدر، و قال أبو عثمان رضي الله عنه: منذ أربعين سنة، ما أقامني الله في حال فكرهته، و لا نقلتي إلى غيره فسخطته /.

فإذا أراد الفقير أن يكون تصرفه بالله فينعزل عن حظوظه و هواه، فإذا أراد أن يفعل أمرا فليتأن و يصبر و يسمع إلى الهاتف، فإن الله سبحانه و تعالى يسمعه ما يريد أن يتوجه إليه فعلا أو تركا، و قد جربنا هذا في سفرنا و إقامتنا، فكنا لا نتصرف إلا بإذن خاص و الحمد لله، و صاحب هذا الاعتناء كله هكذا مع التأني، فإن التأني من الله، و العجلة من الشيطان، و كثيرا ما كان الشيخ المجذوب الولي العارف سيدي أحمد بوسلهام ينشدني هذا البيت:

تأن و لا تعجل لأمـر تريــده *** و كن راحما بالخلق تبلــى براحــم

فعليك أيها المريد بالاعتناء بهذا الأمر، و افهم عن الله في أمورك كلها، و انشد على نفســك:

اتبع رياح القضا و در حيث دارت *** و سلم لسلمـى و سر حيث ســارت

واستعن بأدعيته عليه الصلاة و السلام في هذا المقام كقوله صلى الله عليه و سلم: " اللهم إني أصبحت لا أملك لنفسي ضرا و لا نفعا، و لا موتا و لا حياة و لا نشورا، و لا أستطيع أن آخذ إلا ما أعطيتني، و لا أن أتقي إلا ما وقيتني، فوفقني اللهم لما ترضاه مني من القول و الفعل، و في عافية و ستر أنك على كل شيء قدير "

و كقوله صلى الله عليه و سلم: " اللهم إني أصبحت لا أستطيع دفع ما أكره، و لا أملك نفع ما أرجو، و أصبح الأمر بيد غيري، و أصبحت مرتهنا بعملي، فلا فقير أفقر مني، اللهم لا تشمت بي عدوي و لا تسيء بي صديقي، و لا تجعل مصيبتي في ديني، و لا تجعل الدنيا أكبر همي و لا مبلغ علمي و لا تسلط علي من لا يرحمني " إلى غير ذلك من الأدعية التي تكسب الرضا و التسليم، و المقصود من دعائه عليه و السلام، فهم معانيها لا مجرد ألفاظها، فالمراد بالمعاني لا بالأواني، و الله تعالى أعلــم..

و يجمع هذه المعاني وصية شيخ طريقتنا القطب ابن مشيش للرجل الذي قال له: وظف علي وظائف و أوراد، فغضب و قال له: أرسول أنا، فأوجب الواجبات، الفرائض معلومة، و المعاصي مشهورة، فكن للفرائض حافظا و للمعاصي رافضا، و احفظ قلبك من إرادة الدنيا، و حب النساء، و من الجاه، و إيثار الشهوات، و اقنع في ذلك كله بما قسم الله لك، إذا خرج لك مخرج الرضى و هو جماله تعالى، فكن لله فيه شاكرا، و إذا خرج لك مخرج السخط، و هو جلاله، فكن عليه صابرا، و حب الله قطب تدور عليه الخيرات، و اصل جامع لجميع الكرامات، حصن ذلك كله بأربع: صدق الورع، و حسن النية، و إخلاص العمل، و محبة العلم، و لا يتم ذلك إلا بصحبة أخ صالح أو شيخ صالــح /.

و قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: احـرص أن تصبح و تمسي مفوضا مستسلما لعله ينظر إليك فيرحمك /.

و قال بعضهم: من اهتدى إلى الحق لم يهتد لنفسه، و من اهتدى لنفسه لم يهتد إلى الله، أي من رأى الحق غاب عن نفسه، و من رأى نفسه حجب عن الله، ثم العاقل الذي ينظر ما يفعل الله به هو العارف كما تقدم، لأنه هو الذي يتحقق فيه ذلك، و من علامته أنه لا يستوحش من شيء لمعرفته في كل شيء و فهمه عن الله في كل شيء، بخلاف غيره من العباد و الزهاد، و هو الذي أشار إليـه بقولــه:

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire