ما فاتك من عمرك لا عوض له، و ما حصل لك منه لا قيمة له.

   قلت: عمر المؤمن هو رأس ماله، فيه ربحه و خسارته، فمن شد يده عليه كان من الفائزين، و من ضيعه في البطالة و التقصير كان من الخاسرين، فما فات منه في غير طاعة ربه لا عوض له، إذا ما ذهب لا يرجع أبدا، و ما فات منه لا قيمة تفي بقدره، إذ لو اشتريت ساعة منه بملء الأرض ذهبا لكان نزرا في حقه، لأن ساعة منه تذكر الله فيها تنال بذلك ملكا كبيرا و نعيما مقيما، و لو بيعت الدنيا بحذافيرها ما بلغت منه عشر العشر، و لأجل هذا المعنى اشتدت محافظة السلف الصالح على الوقت، و بذلوا مجهودهم في اغتنام الساعات، و لم يقنعوا من أنفسهم إلا بالجد و التشمير، و لم يسمحوا لها في الراحة و البطالة بقليل و لا كثير.

   و في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم: "لا تأتي على العبد ساعة لا يذكر الله فيها إلا كانت عليه حسرة يوم القيامة" و قال علي كرم الله وجهه، بقية عمر العبد لها ثمن يدرك بها ما فات و يحيى بها ما مات، و قال الجنيد رضي الله عنه: الوقت إذا فات لا يستدرك، و ليس شيء أعز من الوقت، و في معناه قيـل:

السباق السبــاق قـولا و فعــلا       حـذر النفـس حسـرة المسبـــوق

   و قال الحسن البصري رضي الله عنه: أدركت أقواما كانوا على أنفاسهم و أوقاتهم أشد حفظا و أحرص شفقة منكم على دنانيركم و دراهمكم، كما لا يخرج أحدكم ديناره و لا درهمه إلا في ورود منفعة و استجلاب فائدة، كذلك كانوا لا يضيعون نفسا من أنفاسهم في غير طاعة أبدا.

   كان سيدنا علي كرم الله وجهه يقول لفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم: إذا صنعت طعاما فميعيه، أي اجعليه مائعا خفيفا، فإن بين المائع و اليابس خمسين تسبيحة، و قال أبو علي الجرجاني: ما مضغت الخبز من أربعين سنة، و إنما أسف السويق و أعوذ لذكر الله تعالى، قال: و قد كنت عددت ما بين المضغ و البلع ستون تسبيحا.

   و قيل: إن ساعات الليل و النهار أربع و عشرون ساعة تبعث يوم القيامة خزائن مصفوفة أربعا و عشرين خزانة، فمن كان عمرها في الدنيا بطاعة الله رآها خزائن معمورة بالنعيم، و من كان ضيعها رآها خزائن فارغة خاوية، فيتحسر عليها و يندم.

   و جاء في الخبر: أن أهل الجنة بينما هم في نعيمهم إذ سطح لهم نور من فوق أضاءت منه منازلهم كما تضيء الشمس لأهل الدنيا، فينظرون إلى رجال من فوقهم أهل عليين يرونهم كما يرى الكوكب الذري في أفق السماء، و قد فضلوا عليهم في الأنوار و الجمال و النعيم كم فضل القمر على سائر النجوم، فينظرون إليهم يسيرون على نجب تسرح بهم في الهواء يزورون ذا الجلال و الإكرام، فينادي هؤلاء: يا إخواننا ما أنصفتمونا، كنا نصلي كما تصلون و نصوم كما تصومون، فما هذا الذي فضلتم به علينا، فإذا النداء من قبل الله عز و جل، أنهم كانوا يجوعون حين تشبعون و يعطشون حين تروون، و يعرون حين تكسون و يذكرون حين تنسون و يبكون حين تضحكون و يقومون حين تنامون و يخافون حين تأمنون، بذلك فضلوا عليكم اليوم، فذلك قوله تعالى:( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون) /.

 

 ما أحببت شيئا إلا كنت له عبدا

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire