الأكوان ثابتة بإثباته و ممحوة بأحدية ذاته.
قلـت: الأكوان هي ما ظهر في عالم الشهادة، أو تقول ما دخل عالم التكوين، و هي موجودة بوجود الحق، قائمة به ثابتة بإثباته ليعرف بها، ممحوة بأحدية ذاته لانفراد وجوده، فمن أثبتها لنفسها فقد جهله فيها، و حجب بها عن شهود موجدها، و من أثبتها بالله، فقد عرف فيها و شهد فيها مولاها، فالثبوت للأكوان أمر عوضي و الحق اللازم هو وجود أحدية الحق تعالى، و الأحدية مبالغة في الوحدة، و لا تتحقق إلا إذا كانت الوحدة، بحيث لا يتمكن أن يكون أشد و أكمل منها، فمن مقتضى حقيقتها محو الأكوان و بطلانها بحيث لا توجد، إذ لو وجدت لم تكن أحدية، و لكان في ذلك متعددا، و أثنينية كما قيــل:
أرب و عبــد و نفســي ضـد **** قلــت لــه ليــس ذاك عـنـــدي
فقــال: ما عندكــم، فقلنــا: **** وجــود فقـــد و فقــد وجــــد
تــوحيـد حــق بتـرك حــق **** و ليــس حــق ســواي وحــــد
و معنى كلام الشاعر، الإنكار على من أثبت الفرق بأن جعل للعبودية محلا مستقلا منفصلا عن أسرار معاني الربوبية قائما بنفسه، و لا شك أن العبودية تضاد أوصاف الربوبية على هذا الفرق، و أنت تقول في توحيد الحق: لا ضد لـه، فقد نقضت كلامك و لذلك قال: و نفي ضد، فالواو بمعنى مع و هو داخل في الإنكار، أيوجد رب و عبد مستقل مع نفي الضد للربوبية و العبودية، تضاد أوصاف الربوبية، و الحق أن الحق تعالى تجلى بمظاهر الجمع في قوالب الفرق، ظهر بعظمة الربوبية في إظهار قوالب العبودية، فلا شيء معه، و قوله في الجواب: وجود فقد، أي عندنا وجود فقد السوي و فقد وجود النفس، و قوله: توحيد حق بترك حق، أي توحيد حق الحق بترك حق الغير و لا غير، و لذلك قال: و ليس حق موجود سوى وجودي وحدي، تكلم على لسان الفاء، و الله تعالى أعلم..
و قال آخر:
سر سري من جنـاب القـدس أفنانـي ***** لكن بـذاك الفنا عني قـد أحيانــي
و ردني للبقـا حتـى أعبــر عــن ***** جمال حضرته لكــل هيـمـــان
و صرت في ملكوت من عجـائبــه ***** لم أألف غيـر وجود ما لـه ثـانـي
و أنشد المؤلف لنفسه في لطائف المنن يوصي رجلا من إخوانه:
حسـن بـأن تدع الوجـود بأســره **** حسـن فـلا يشغلك عنـه شاغــل
و لئـن فهمــت لتعـلمـن بأنــه **** لا تــرك إلا للـذي هـو حاصــل
و متى شهـدت سواه فاعلــم أنــه **** من وهمك إلا دنــى و قلبـك ذاهـل
حسـب الإله شهـوده لـوجـــوده **** و الله يعلـم مـا يقــول الـقائــل
و لقد أشرت إلى الصريح من الهـــدى **** دلت عليـه إن فهـمــت دلائــل
و حديث كـان و لا شيء دونــــه **** يقضي بـه الآن اللبيب العــاقـــل
و هذا آخر الباب الرابع عشر، و حاصلها تحويش العباد إلى الله و تحبيبه إليهم بذكر ما اشتمل عليه الحق سبحانه من الكرم و الإحسان و غاية اللطف و المبرة و الامتنان، و ذلك أنه سبحانه و تعالى منّ علينا أولا بالطاعة و العمل، و تفضل علينا ثانيا بالقبول مع ما اشتمل عليه عملنا من النقص و الخلل، ثم إذا وقعت منا معصية أو زلل غطانا بستره و بمغفرته لنا تفضلا، و إذا توجهنا إليه بقلوبنا سترنا منها و عصمنا ليعظم قدرنا و يظهر شكرنا، فنتخذه صاحبا و ندع غيره جانبا..
فحينئذ تشرق في قلوبنا أنوار اليقين و نرحل إلى الآخرة في أقرب حين، ثم تشرق علينا أنوار الإحسان، فتنطوي لنا رؤية الأكوان بشهود نور الملك الديان، فحينئذ ينشر محاسننا للعباد، فيقبلون علينا بالثناء و المحبة و الوداد..
ثق بما تعلمه من نفسك لا بما يظنه الناس
0 Commentaire(s)