مقدمة سيدي أحمد بنعجيبة

ahmad ibn ajiba

بسم الله الرحمن الرحيم
يقول العبد الفقير إلى مولاه الغني به عما سواه
أحمد بن محمد ابن عجيبة الحسني لطف الله به و حباه

إن أولى ما عقد عليه الجنان، و نطقت به ألسنة الفصاحة و البيان، و خطت به أقلام البنان، حمد الفتاح العليم المنان (الحمد لله ) الذي ملأ قلوب أوليائه بمحبته، و اختص أرواحهم بشهود عظمته ، و هيأ أسرارهم لحمل أعباء معرفته ، فقلوبهم في روضات جنان معرفته يحبرون، و أرواحهم في رياض ملكوته يتنزهون، و أسرارهم في بحار جبروته يسبحون، فاستخرجت أفكارهم يواقيت العلوم، و نطقت ألسنتهم بجواهر الحكم و نتائج الفهوم، فسبحان من اصطفاهم لحضرته، و اختصهم بمحبته، فهم بين سالك و مجذوب، و محب و محبوب، أفناهم في محبة ذاته، و أبقاهم بشهود آثار صفاته ..

و الصلاة و السلام على سيدنا و مولانا محمد منبع العلوم و الأنوار، و معدن المعارف و الأسرار، و رضي الله تعالى عن أصحابه الأبرار و أهل بيته الأطهار..

أمــا بعــد :

كل شيء و قبله و معه، فعلم التصوف من أجل العلوم قدرا، و أعظمها محلا و فخرا، و أسناها شمسا و بدرا، كيف لا و هو لباب الشريعة، و منهاج الطريقة، و منه تشرق أنوار الحقيقة، و كان أعظم ما صنف فيه الحكم العطائية، التي هي مواهب لدنية، و أسرار ربانية، نطقت بها أفكار قدوسية، و أسرار جبروتية، و لقد سمعت شيخ شيوخنا مولاي العربي رضي الله عنه يقول: سمعت الفقيه البناني يقول: كادت حكم ابن عطاء الله أن تكون وحيا، و لو كانت الصلاة تجوز بغير القرآن لجازت بكلام الحكم، أو كما قال.. ( و لقد طلب ) مني شيخنا العارف الواصل،المحقق الكامل، سيدي محمد البوزيدي الحسني أن أضع عليها شرحا متوسطا يبين المعنى، و يحقق المبنى، معتمدا في ذلك على حول الله و قوته، و ما يفتح الله به من خزائن علمه و حكمته، أو ما كان مناسبا لتلك الحكمة من كلام القوم، ( فأجبت طلبته) و أسعفت رغبته رجاء أن يقع به الإمتاع، و يعم به الانتفاع، و ما توفيقي إلا بالله عليه توكلت و إليه أنيب، ( و سميته) "إيقاظ الهمم في شرح الحكم"، جعله الله خالصا لوجهه العظيم بجاه نبينا المصطفى الكريم عليه أفضل الصلاة و أزكى التسليم، و لنقدم بين يدي الكتاب مقدمتين :

إحداهما في حد التصوف و موضوعه و اسمه و استمداده، و حكم الشارع فيه، و تصور فضيلته و نسبته و ثمرته .

و المقدمة الثانية في ترجمة الشيخ و ذكر محاسنه .

أما حده: فقال الجنيد: هو أن يميتك الحق عنك، و يحييك به، و قال أيضا: أن تكون مع الله بلا علاقة..

و قيل: الدخول في كل خلق سني و الخروج من كل خلق دني، و قيل: هو أخلاق كريمة ظهرت في زمان كريم مع قوم كرام ، و قيل: أن لا تملك شيئا و لا يملكك شيء، و قيل: استرسال النفس مع الله على ما يريد، و قيل: التصوف مبني على ثلاث خصال: التمسك بالفقر و الافتقار، و التحقق بالبذل و الإيثار، و ترك التدبير و الاختيار، و قيل: الأخذ بالحقائق، و الإياس مما في أيدي الخلائق، و قيل: ذكر مع اجتماع، و وجد مع استماع، و عمل مع اتباع، و قيل: الإناخة على باب الحبيب و إن طرد، و قيل: صفوة القرب بعد كدرة البعد، و قيل: الجلوس مع الله بلا هم، و قيل: هو العصمة عن رؤية الكون ...

و قال أبو حمزة البغدادي: الصوفي الصادق علامته أن يفتقر بعد الغنى، و يذل بعد العز، و يخفى بعد الشهرة، و علامة الصوفي الكاذب أن يستغني بعد الفقر، و يعز بعد الذل، و يشتهر بعد الخفاء ..

و قال الحسن بن منصور الصوفي: واحد في الذات لا يقبله أحد و لا يقبل أحدا..

و قيل: الصوفي كالأرض يطرح عليه كل قبيح و لا يخرج منه إلا كل مليح و يطأه البر و الفاجر ..

و قالوا: من أقبح كل قبيح، صوفي شحيح.. و قال الشبلي: منقطع عن الخلق، متصل بالحق ، لقوله تعالى: (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) ثم قال أيضا: الصوفية أطفال في حجر الحق ..

وقيل: الصوفي لا تقله الأرض و لا تضله السماء، يعني لا يحصره الكون..

و قال الشيخ زروق: قد حد التصوف و رسم، و فسر بوجوه تبلغ نحو الألفين، ترجع كلها لصدق التوجه إلى الله تعالى، و إنما هي وجوه فيه، و الله أعلم، ثم قال: و الاختلاف في الحقيقة الواحدة إن كثر، دل على بعد إدراك جملتها، ثم هو إن رجع لأصل واحد يتضمن جملة ما قيل فيها، كانت العبارة عنه بحسب ما فهم عنه، و جملة الأقوال واقعة على تفاصيله، و اعتبار كل واحد على حسب مثاله علما و عملا و حالا و ذوقا و غير ذلك، و الاختلاف في التصوف من ذلك، فمن أجل ذلك ألحق الحافظ أبو نعيم رحمه الله بغالب أهل حليته عند تحلية كل شخص قولا من أقوالهم يناسب حاله قائلا: و قيل، إن التصوف كذا، فاقتضى أن كل من له نصيب من صدق التوجه له نصيب من التصوف، و أن تصوف كل أحد صدق توجهه، فافهم ..

و قال أيضا: قاعدة صدق التوجه مشروط بكونه من حيث يرضاه الحق و بما يرضاه، و لا يصح مشروط بدون شرطه، و لا يرضى لعباده الكفر، فلزم تحقيق الإيمان، (وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ )، فلزم العمل بالإسلام، فلا تصوف إلا بفقه، إذ لا تعرف أحكام الله الظاهرة إلا منه، و لا فقه إلا بتصوف، إذ لا عمل إلا بصدق توجه، و لا هما إلا بإيمان، إذ لا يصح واحد منهما يدونه، فلزم الجميع لتلازمهما في الحكم كتلازم الأرواح للأجساد، إذ لا وجود لها إلا فيها ، كما لا كمال لها (أي للأشباح) إلا بها، و منه قول الحسن البصري: من تصوف و لم يتفقه فقد تزندق، و من تفقه و لم يتصوف فقد تفسق، و من جمع بينهما فقد تحقق..

(قلت): تزندق الأول، لأنه قائل بالجبر الموجب لنفي الحكمة و الأحكام، أما تفسق الثاني فلخلو علمه من صدق التوجه الحاجز عن معصية الله، و عن الإخلاص المشروط في الأعمال، و تحقق الثالث لقيامه بالحقيقة في عين تمسكه بالحق، فاعرف ذلك إذ لا وجود لها إلا فيها، كما لا كمال له إلا به، فافهم..

(أما موضوعه): فهو الذات العلية، لأنه يبحث عنها باعتبار معرفتها إما بالبرهان، أو بالشهود و العيان، فالأول للطالبين و الثاني للواصلين.. و قيل: موضوعه النفوس و القلوب و الأرواح، لأنه يبحث عن تصفيتها و تهذيبها، و هو قريب من الأول، لأن من عرف نفسه عرف ربه، و أما واضع هذا العلم فهو النبي صلى الله عليه و سلم، علمه الله له بالوحي و الإلهام، فنزل جبريل عليه السلام أولا بالشريعة، فلما تقررت نزل ثانيا بالحقيقة، فخص بها بعضا دون بعض، و أول من تكلم فيه و أظهره سيدنا علي كرم الله وجهه، و أخذه عنه الحسن البصري، و أمه اسمها خيرة مولاة لأم سلمة زوج النبي صلى الله عليه و سلم، و أبوه مولاي زيد بن ثابت، توفي الحسن سنة عشر و مائة، و أخذه عن الحسن حبيب العجمى، و أخذه عن حبيب أبو سليمان داوود الطائي، توفي سنة ستين و مائة، و أخذه عن داوود أبو محفوظ معروف بن فيروز الكرخي رضي الله عنه، و عنه أبو مغسل سري بن مغلس السقطي المتوفى سنة إحدى و خمسين و مائة، و أخذه عن السري إمام هذه الطريقة و مظهر أعلام الحقيقة أبو القاسم محمد بن الجنيد الخزاز، أصله من نهاوند، و منشأه العراق، تفقه على أبي ثور، و صحب الشافعي، و كان يفتي على مذهب أبي ثور، ثم صحب خاله السري، و أبا الحارث المحاسبي و غيرهما، و كلامه و حقائقه مدونة في الكتب، توفي رضي الله عنه سبع و تسعين بعد المائتين، و قبره ببغداد مشهور يزار، ثم انتشر التصوف في أصحابه و هلم جرا، و لا ينقطع حتى ينقطع الدين.

و من رواية أخرى، أخذه عن سيدنا علي رضي الله عنه، أول الأقطاب سيدنا الحسن ولده، ثم عنه أبو محمد جابر، ثم القطب سعيد الغزواني، ثم القطب فتح السعود، ثم القطب سعد، ثم القطب سعيد، ثم القطب سيدي أحمد المرواني، ثم إبراهيم البصري، ثم زين الدين القزويني، ثم القطب شمس الدين، ثم القطب تاج الدين، ثم القطب نور الدين أبو الحسن، ثم القطب فخر الدين، ثم القطب تقي الدين الفقير بالتصغير فيهما، ثم القطب سيدي عبد الرحمن المدني، ثم القطب الكبير مولاي عبد السلام بن مشيش، ثم القطب الشهير أبو الحسن الشاذلي، ثم خليفته أبو العباس المرسي، ثم العارف الكبير سيدي أحمد بن عطاء الله، ثم العارف الكبير سيدي داوود الباخلي، ثم العارف سيدي محمد بحر الصفا، ثم العارف ولده سيدي علي بن وفا، ثم الولي الشهير سيدي يحيى القادري، ثم الولي الشهير سيدي أحمد بن عقبة الحضرمي، ثم الولي الكبير سيدي أحمد زروق، ثم سيدي إبراهيم أفحام، ثم سيدي علي الصنهاجي المشهور بالدوار، ثم العارف الكبير سيدي عبد الرحمن المجذوب، ثم الولي الشهير سيدي يوسف الفاسي، ثم العارف سيدي عبد الرحمن الفاسي، ثم العارف سيدي محمد بن عبد الله، ثم العرف سيدي قاسم الخصاصي، ثم العارف سيدي أحمد بن عبد الله، ثم العرف سيدي العربي بن عبد الله، ثم العارف الكبير سيدي علي بن عبد الرحمن العمراني الحسني، ثم العارف الشهير شيخ المشايخ سيدي و مولاي العربي الدرقاوي الحسني، ثم العارف الكامل المحقق الواصل شيخنا سيدي محمد بن أحمد البوزيدي الحسني، ثم عبد ربه، أقل عبيده أحمد بن محمد بن عجيبة الحسني، ثم عنه خلق كثير و المنه لله العلي الكبير ..

أما اسمه: فهو علم التصوف، و اختلف في اشتقاقه على أقوال كثيرة، و مرجعها إلى خمس :

أولها: أنه من الصوفة لأنه مع الله كالصوفة المطروحة لآ تدبير له .

الثاني: من صوفة القفا للينها، و الصوفي هين لين كهي .

الثالث: أنه من الصفة إذ جملته اتصاف بالمحامد، و ترك الأوصاف المذمومة .

الرابع: أنه من الصفاء، و صحح هذا القول حتى قال أبو الفتح السبتي رحمه الله في الصوفي :

تخالف الناس في الصوفي و اختلفــوا

جهلا و ظنوا أنه مشتق من الصــوف

و لست أمنح هذا الإسم إلا فتــى

صافي فصوفي حتى سمي الصوفـــي

الخامس: أنه منقول من صفة المسجد النبوي الذي كان منزلا لأهل الصفة لأن الصوفي تابع لهم فيما أثبت الله لهم من الوصف حيث قال تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) و هو الأصل الذي رجع إليه كل قول فيه، قاله الشيخ رزوق رحمه الله .

و أمل استمداده: فهو مستمد من الكتاب و السنة، و الهامات الصالحين، و فتوحات العارفين، و قد أدخلوا فيه أشياء من علم الفقه لمس الحاجة إليه في علم التصوف، حررها الغزالي في الإحياء، في أربعة كتب، كتاب العبادات، و كتاب العادات، و كتاب المهلكات، و كتاب المنجيات، و هو فيه كمال لا شرط إلا ما لا بد منه في باب العبادات و الله أعلم.

و أما حكم الشارع فيه: فقال الغزالي: إنه فرض عين، إذ لا يخلو أحد من عيب أو مرض إلا الأنبياء عليهم السلام، و قال الشاذلي: من لم يتغلغل في علمنا هذا مات مصرا على الكبائر و هو لا يشعر، و حيث كان فرض عين يجب السفر إلى من يأخذه عنه إذا عرف بالتربية، و اشتهر الدواء على يده، و إن خالف والديه حسب ما نص عليه غير واحد، كالبلالي و السنوسي و غيرهما.

قال السنوسي: النفس إذا غلبت كالعدو إذا فاجأ، تجب مجاهدتها، و الاستعانة عليها، و إن خالف الوالدين، كما في العدو إذا برز ، قاله في شرح الجزيري، و ما أحسن قول القائل :

أخاطر في محبتكم بروحــــي *** و أركب بحركم أما و أمـــا
و أسلك كل فج في هواكـــم *** و أشرب كأسكم و لو كان سمـا
و لا أصغي إلى من قد نهانـــي *** و لي أذن عن العذال صمـــا
أخاطر بالخواطر فـي هواكــم *** و أترك في رضاكم أبا و أمـــا

 

و أما تصور مسائله: فهي معرفة اصطلاحاته، و الكلمات التي تتداول بين القوم، كالإخلاص، و الصدق، و الزهد، و الورع، و الرضى، و التسليم، و المحبة، و الفناء، و البقاء، و كالذات، و الصفات، و القدرة، و الحكمة، والروحانية، و البشرية، و كمعرفة حقيقة الحال، و الوارد، و المقام، و غير ذلك، و قد ذكر القشيري في أول رسالته جملة شافية، و قد كنت جمعت كتابا فيه مائة حقيقة من حقائق التصوف، سميته : معراج التشوف إلى حقيقة التصوف ، فيطالعه من أراده ليستعين به على كلام القوم ، ثم قلت :

بل التحقيق في مسائل هذا العلم: أنها القضايا التي يبحث عنها السالك في حال سيره ليعمل بمقتضاها، ككون الإخلاص شرطا في العمل، و ككون الزهد ركنا في الطريق، و ككون الخلوة و الصمت مطلوبين، و أمثال هذه القضايا، فهي مسائل هذا الفن، فينبغي تصورها قبل الشروع في الخوض فيه علما و عملا و الله تعالى أعلم .

و أما فضيلته: فقد تقدم أن موضوعه الذات العالية، و هي أفضل على الإطلاق، فالعلم الذي يتعلق بها هو الأفضل على الإطلاق، إذ هو دال بأوله على خشية الله تعالى، و بوسطه على معاملته، و بآخره على معرفته سبحانه و الانقطاع إليه، قال الجنيد: لو نعلم أن تحت أديم السماء أشرف من هذا العلم الذي نتكلم فيه مع أصحابنا لسعيت إليه، و قال الشيخ الصقلي في كتابه أنوار القلوب في العلم الموهوب ما نصه: و كل من صدق بهذا العلم فهو من الخاصة، و كل من فهمه فهو من خاصة الخاصة، و كل من عبر عنه و تكلم فيه فهو النجم الذي لا يدرك، و البحر الذي ينزف، و قال آخر: إذا رأيت من فتح له بالتصديق في هذه الطريقة فبشره، و إذا رأيت من فتح له بالفهم فيه فاغتبطه، و إذا رأيت من فتح له بالنطق فيه فعظمه، و إذا رأيت منتقدا عليه ففر منه فرارك من الأسد، و اهجره، و ما من علم إلا و قد يقع الاستغناء عنه في وقت ما، إلا علم التصوف، فلا يستغني عنه أحد في وقت من الأوقات..

و أما نسبته من العلوم : فهو كلي لها، و شرط فيها، إذ لا علم و لا عمل إلا بصدق التوجه إلى الله تعالى، فالإخلاص شرط في الجميع، هذا باعتبار الصحة الشرعية، و الجزاء و الثواب، و أما باعتبار الوجود الخارجي، فالعلوم توجد في الخارج بدون التصوف لكنها ناقصة أو ساقطة، و لذلك قال السيوطي: نسبة التصوف من العلوم كعلم البيان من النحو.. يعني هو كمال فيها و محسن لها، قال الشيخ زروق: نسبة التصوف من الدين نسبة الروح من الجسد لأنه مقام الإحسان الذي فسره رسول الله صلى الله عليه و سلم لجبريل " أن تعبد الله كأنك تراه " (الحديث) إذاً لا معنى له سوى ذلك إذْ مداره على مراقبة بعد مشاهدة، أو مشاهدة بعد مراقبة، و إلا لم يقم له وجود، و لم يظهر له موجود، فافهم اهـ.. و لعله أراد بالمراقبة قبل المشاهدة الرجوع للبقاء بشهود الأثر بالله..

و أما فائدته: فتهذيب القلوب، و معرفة علام الغيوب، أو تقول: ثمرته سخاوة النفوس، و سلامة الصدور، و حسن الخلق مع كل مخلوق.. و اعلم أن هذا العلم الذي ذكرنا ليس هو اللقلقة باللسان، و إنما هو أذواق و وجدان، و لا يؤخذ من الأوراق، و إنما يؤخذ من أهل الأذواق، و ليس ينال بالقيل و القال، و إنما يؤخذ بخدمة الرجال، و صحبة أهل الكمال، و الله ما أفلح من أفلح إلا بصحبة من أفلح و بالله التوفيق ..

و أما ترجمة الشيخ: فهو الشيخ الإمام تاج الدين، و ترجمان العارفين، أبو الفضل أحمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد بن عيسى بن الحسين بن عطاء الله، الجذامي نسبا، المالكي مذهبا، الأسكندري دارا، القرافي مزارا، الصوفي حقيقة، الشاذلي طريقة، أعجوبة زمانه، و نخبة عصره و أوان، المتوفى في جمادى الآخرة سنة تسع و سبع مائة، قاله الشيخ زروق، و قال في الديباج المذهب: كان جامعا لأنواع العلوم من تفسير و حديث و فقه و نحو و أصول و غير ذلك، وكان رحمه الله متكلما على طريق أهل التصوف، واعظا، انتفع به خلق كثير و سلكوا طريقه..

قلت: و قد شهد له شيخه أبو العباس المرسي بالتقديم ، قال في لطائف المنن: قال لي الشيخ: الزم، فوالله لئن لزمت لتكونن مفتيا في المذهبين، يريد مذهب أهل الشريعة و مذهب أهل الحقيقة، و قال فيه أيضا: و الله لا يكون هذا الشاب حتى يكون داعيا يدعو إلى الله، و قال فيه أيضا: و الله ليكونن لك شأن عظيم، و الله ليكونن لك شأن عظيم، قال: فكان بحمد الله ما لا أنكره..

و له من التأليف خمس :

- التنوير في إسقاط التدبير.

- لطائف المنن في مناقب شيخه أبي العباس و شيخه أبي الحسن .

- تاج العروس و هو مؤلف منها .

- مفتاح الفلاح في الذكر و كيفية السلوك.

- القول المجرد في الإسم الفرد.

و الحكم الذي أردنا أن نتكلم عليه، و مضمنه من علوم القوم أربعة :

الأول: علم التذكير، و الوعظ، و قد حاز منه أوفر نصيب، و هو لمقام العوام، و تستفاد مواده من كتب ابن الجوزي، و بعض تأليف المحاسبي، و صدور كتب الإحياء، و القوت، و تحبير القشيري و ما جرى مجراها، و الله أعلم .

الثاني: تصفية الأعمال، و تصحيح الأحوال بتحلية الباطن بالأخلاق المحمودة، و تطهيره من الأوصاف المذمومة، و هذا حظ المتوجهين من الصادقين، و المبتدئين من السالكين، و قد حاز منها جملة صالحة، و مادتها من كتب الغزالي و السهروردي و نحوهما .

الثالث: تحقيق الأحوال و المقامات، و أحكام الأذواق و المنازلات، و هو نصيب المستشرفين من المريدين، و المبتدئين من العارفين، و هذا النوع من أكثر ما وقع فيه، و مادته من مثل كتب الحاتمي في المعاملات و البوني في المنازلات إلى غير ذلك .

الرابع: المعارف و العلوم الإلهامية، و فيه منها ما لا يخفى لكن كتبه ملئت بشرحها، لا سيما التنوير، و لطائف المنن، اللذان هما كالشرح لجملة هذا الكتاب، و بالجملة، فهو جامع لما في كتب الصوفية المطولة، و المختصرة مع زيادة البيان و اختصار الألفاظ، و المسلك الذي سلك فيه مسلك توحيدي لا يسع أحدا إنكاره، و لا الطعن فيه، و لا يدع للمعتني به صفة حميدة إلا كساه إياها، و لا صفة ذميمة إلا أزالها عنه بإذن الله، كما قال الشيخ ابن عباد في وصف التنوير: و هما أخوان من أب واحد و أم واحدة، قاله سيدي أحمد زروق في بعض شروحه .

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire