تأريخ الطب الحديث:

ما مر هو تأريخ يجب اعتماده، والناكر للأصل تائه بين الأهواء ولو ظن نفسه بالوهم مصيبا، أو ظن بالإثبات الظاهري أنه من العلم والمعرفة قريبا.. فحكمة العليم الحكيم أكبر من تصور الإنسان، لأن الفرد منا لا يدرك إلا ما رأته عينه أو دلت عليه وسائله، وقوة بصره محدودة، ووسائله معدودة.. فما أبعد أن يربط بين الشجرة العظيمة وأصلها من بذرة جافة بعيدة، لولا فضل الرحمن الرحيم الذي بينها، وما أبعد أن يجمع بين بنية هذا الإنسان المعقدة وأصله قطرة من نطفة مهينة، لو رحمة رب العالمين الذي أنشأها...

فأصل العلوم له ينابيع صافية، لا يكون الري المعرفي إلا منها، ولا تحصل المعرفة الحقيقية إلا بها، أصلها من جذور أصل الإنسان، وموطنها من أسرار هذا القرآن... من حرمها حرم العلم كله، والخير كله، فليعز نفسه في مصابها، وليبك نفسه فهو خير من يبكيها، لعل شمسه تشرق بعد أفولها، ورشده يرجع بعد غوايته، و يرجع هداه بعد انحرافه وضلالته..

اما إذا أردنا أن ننظر إلى العلوم من وجه الاجتهاد، فإنه لا يستقيم علم بالكفر والإلحاد، ولا يستقيم منهج بالجحود والعناد.. فالفكر ينفتح لما فتح له، والاجتهاد به يحصد ما زرع له.. اجتهدت أقوام بعقولها سلبا فضرت بنفسها وأضرت غيرها، ولم تجن من جهودها إلا ركاما ووبالا، واجتهدت أقوام رغم ضعف إمكانياتها فعوضها الله إكبارا وإجلالا...

من تأمل تأريخ الطب في فجر الإسلام تفتح له أقفال لغز ما فيه نتكلم، أما ما كان في عهد النبي الكريم فما ترك شيئا من الطب الرباني إلا فتح أقفاله، وما كان منه متعلقا بالطب القرآني إلا دل عليه بالعلم والعمل والفعل والحديث والإقرار، وأما ما كان من الطب التجريبي إلا أشار إليه ونبه عليه كالحجامة ونظام الغذاء وبيان منافع بعضه على بعض...

وكذلك كان دأب الصحابة والتابعين، أصول العلم فيهم نابتة، وفروعها باستقامتهم ثابتة، فكانوا يقدرون العلم التجريبي بصفته جزء لا يتجزأ من العلم الأصلي... فترجم ما كان سابقا، وصحح ما كان لاحقا، واجتمعت التخصصات من كل الاتجاهات ومن كل الحضارات، لأن الإسلام أرض خصبة للعلوم، والمسلمون مشاتل صالحة لحملها وصيانتها وتبليغها على الوجه المطلوب، وتطبيقها على المنهج المرغوب... ذواتهم لينة للعلم بالصبر والمثابرة، وعقولهم مؤهلة من غير مكابرة، وقلوبهم مفتوحة أقفالها مهيأة أركانها، لأن طلب العلم عندهم فريضة على كل مسلم ومسلمة.. أجسادهم متفتحة بالصلاة والذكر والصيام، وهممهم مرفوعة بالإيثار والصدقة والإكرام، وصحتهم محفوظة بالاقتصاد في المعيشة والعفة في الشهوات وإقصاء المعاصي والشبهات... وعد بعد ذلك إلى أن ينقطع النفَس من تحاصين للنفس والجسد، وللعقل والفكر، وللفرد والمجتمع... .

هكذا تأسس المجتمع المسلم العلمي، وابتدأ الطب الاحترافي في عهد عمر ابن عبد العزيز، وترجمت الكتب اليونانية، وعن السريانية التي ترجمت لليونان، وتخصص مترجمون أخر في فنون أخرى كالفلك والطبيعة والرياضيات والفلسفة الإغريقية، وأحسنت التراجم بأسلوب عربي لا ركاكة ولا حشو فيه، حتى يفهم محتوى الأواني التقنية، وتلقح بمرورها على المعاني والآداب الإسلامية...

ولما عرف الناس الإسلام، وعم السلام شرقا وغربا، تأهلت أجيال في كل العلوم والفنون، وازدهر الطب وتخصصاته، والكيمياء بكل فروعها، والفيزياء في كل دروبها، وتأصلت الرياضيات وعلم النبات وعلم الحيوان والعمارة والتجارة... وبرز من التخصص تخصصات في حفظ اللغة، فتأصل علم النحو والمنطق والبلاغة والعروض... وفي حفظ الشريعة علم الفقه والأصول وعلم الحديث والجرح والتعديل، وفي علم الطريقة والحقيقة علم التصوف ومراقي الإحسان... فلم يكن أهل أي تخصص غائبين عن التخصصات الأخرى، فكنت تجد الطبيب المعالج فلاحا ومزارعا، والفقيه الأصولي تاجرا أو صانعا، والصوفي مدافعا ومحاربا... كانت التخصصات تصب في بعضها، لأنها لها أصل واحد، رحمة العباد وصيانة البلاد وبلوغ المقصود والمراد، هي الحضارة الإنسانية التي لا تتحصل إلا باتباع ما شرعه رب العباد، ونبذ ما علق في النفوس الضعيفة من كراهية وحقد وعناد.. وحسن استغلال الثروات الطبيعية والمحافظة على المخلوقات الربانية...

كل هذا لا يكون إلا بربط سلوك الفعل بطبيعة الفعل واختيار أحسنه، وتوظيف أحسن القول بما بطن في طيات القلوب وتجاويف الأفئدة، وما جرت به أوعية الدم وتدفقت به درج الجسم والكيان، فانسجم صالح العمل بسليم طبعه، وترقت الأعمال وتنقت وبلغة درجة الإحسان.. هذا هو المطلوب من عمل المسلم.. وهكذا يجب أن يكون...

أما وقد هتكت في "البروتوكول" الرباني بنود، وهتكت فيه قواعد، وسن كل واحد لنفسه شرعة ومنهاجا، وأعجب كل ذي رأي برأيه، تكسر بكل نقض في قواعد الأصول أسس من بناء الحضارة الإنسانية... حتى وصل الأمر إلى ما نحن عليه... من تولى منا القول على الطب الإسلامي حصره فيما يعرف، ومن جره النبش إلى الطب النبوي تاجر فيه بكل ما يعرف وما لا يعرف، والاجتهاد العلمي ترك وراءنا ظهريا، وترك الحبل على الغارب مع تجار الأدوية الصالحين والطالحين... ومن منا له بقية الجواب، أو بلاغة الخطاب، فليقله أو لا يقله.. فهو لا يخفى على أحد.. .

ولعلي كشفت عن بعض العيوب وإن كان عيبي في القدح كان أبلغ، ولكن زعزعة في الضمائر أفضل من زلزلة على مستوى صحة الفرد والمجتمع لا تخفى على السقيم والعليل، ولا تخفى على أهل السياسة الصالحين والتخصص الناصحين، وأهل القرار المفتقدين، لعل همما تفيق، وعقولا تصحى من سباتها العميق..

أما وقد تأخرنا عن تأريخ الطب العرضي، فإنه جيد ومفيد بعدما ترجمت الكتب العربية في كل الأقطار الغربية، وبدأ عليها تخصصات أخرى كعلم الأوبئة في القرن السابع عشر واكتشاف الأمراض المتعلقة بها، حتى وصلت في القرن التاسع عشر إلى توضيف الكيمياء والتقنيات المخبرية، ودخل علم الباكتيريا والفيروسات، وبدأت ترى الكائنات الحية الدقيقة بالمكبرات والمجاهر... واكتشف الحمض النووي في الخمسينيات من القرن الماضي الذي فتح أكبر باب للبيولوجيا الجزئية وعلم الوراثة الحديث... وفي نهاية القرن العشرين بدأ "الدعم لتحسين النسل".. واكتشف الأزهايمر، وامتشف أول دواء كيميائي ضد مرض الزهري بالزرنيخ.. وعزل الأنسولين لمعالجة داء السكري، وعوضت المضادات الحيوية الطبيعية بالكيميائية، واكتشف الذهان للأمراض العصبية، ثم مضادات الاكتئاب، وعرفت جراحة القلب، ثم زراعة الأعضاء بعدها... ولا يزال الطب يتقدم بتقدم التقنيات والآمال "منقعدة" على صناعة الأعضاء (والبقية تأتي)... .

وركبت شركات الأدوية سروج أحصنة الطب، وتغيرت سياسات التكوين والتلقين في كليات الطب، لأن التمويل الأصلي من الشركات المعنية بالبحث (وهي تحدد انواع البحث ومواضيعه).. وقننت مناهج الأطباء وطريقة تعاملهم مع المرضى ومع "الأدوية"، وجندت جيوش جرارة تمثل مختلف الأدوية والشركات وتشرحها للأطباء والمتخصصين، ومولت المؤتمرات في مختلف التخصصات، وأعزم الأطباء لها من مختلف أرجاء العالم (مجانا، مع بعض الإضافات...).. ولك أن تتصور الباقي (ولا تنس في تقييمك انها شركات استثمار وفقط)...

باختصار.. أفلحت شركات الأدوية في تكوين ممثلين يعرضون أمام الأطباء والتخصصات أدوية عامة (génériques) التي وضعت رهن الإشارة في الأسواق، والتي هي بدل الأدوية التقليدية (والأطباء لهم نسبة في هذا التسويق!!) بدعوى اكتشاف جزيئات (molécules) على قلتها ونذرتها.. ولكن الأهم من ذلك هو الوصول إلى أن الدواء العام له نفس الفعالة كالدواء الأصلي في عالم الأدوية.. وبالوضوح: أن مختبرات الأدوية النوعية ليست مضطرة لبيان النوعية الصيدلية، ولا كفاءة الدواء ولا الخطورة التي يمكن ان تنجم عنه... (وافهم الباقي)... .

أما في طريقة وضع دواء في السوق، فالدراسات تبين بعض منافعه بتقرير جميل على المنافع والمضار يبضاف إلى تقارير الأدب العلمي... وللتنوير فإن هذه التقارير تمول ولو جزئيا من شركات الأدوية التي تنوي المتاجرة في هذا "البضاعة: الدواء"، وهذا يبين الشبهات التي تقوم حول المصنوع،(والمختبرات تعرف دائما كيف تخرج بأجوبة مقنعة).. أما النتائج الغير مرضية لهم فهي غالبا ما تركن على الرفوف، وربما تجد صعوبة لدرجها في صحف الأدب العلمي... أما النتائج المرضية فتجمل وتنمق وتملأ الجداول.. أما الأعراض الجانبية (والتي تكون غالبا من الخطورة بموقع) عادة تمحى من الدراسات!!..

وهذا كله له جواب بيّن، أن الدواء الذي لا تعرف نتائجه، والذي يمكن أن تكون وخيمة عندما يستعمل على نطاق واسع، فهذا يدل على أن المرضى هم محل تجارب هذه الدواء.. أما مختبرات الأدوية فلها سلوك واضح: إيجاد دواء لمرض منتشر، (ولو أنه يحمل بعض المخاطر، لكن فيه مردو كبير) فالشركة تسوقه على نطاق واسع، وإن ظهر من بين المرضى من تضرر من هذا الدواء أو حصلت له أية مضاعفات خطيرة أو مات، وأقيمت الحجة ضد ذلك الدواء على يد مختصين... فإن الشركة تعوض له!!! (هذا هو العدل)!!..

وتبقى أسئلة كثيرة تفرض نفسها عندما نسمع بعض هذا الذي ذكر (وهو غيض من فيض)، ونجد مع ذلك بعض الأطباء يكتبون لمرضاهم أدوية لمنع الشهيىة كميدياطور (Médiator) (الذي حكم عليه في أمريكا سنة 1997 انه السبب في إصابة صمامات القلب) ولا ينصحون مرضاهم بنقص السعرات الحرارية مع بعض الحركات الرياضية؟..

لماذا لم تتعرف النساء أن لولب منع الحمل النحاسي (لمن ترغب بإلحاح في ذلك) أفضل بكثير وأقل كلفة من الأقراص؟؟

لماذا المرضى من الفرط الكلستولي (رغم كل ما قيل عن الستانينات (statines)) لا يزالون يستعملونها رغم خطورتها، وقد ثبت أن الكلسترول مهم للجسم وانه ليس السبب في سد "الشرايين"...؟؟ فكم جنت الشركات من هذا الدواء خلال السنين الطويلة ومن يعوض المتضررين؟ ومن يثبت لهم الأضرار؟؟ ومن في عالمنا العربي والإسلامي له خلفية على ذلك؟..

صحيح أن بعض الشجارات تحصل ضد شركات الأدوية من حين لآخر (ولكن فيما علم فقط من الأضرار) وإلى أن تثبت أمور ضد الشركات العملاقة فهذا يلزمه سنين وحجج (وتكون الشركات قد عوضت الدواء بآخر مثله).. وإلى ان يثبت الضرر ضد المحاكم تكون الشركات قد روجت خلال تلك السنين الطوال (فالكلاب تنبح والقافلة تسير كما يقولون)... .

من المؤسف جدا أن نجد في العالم الأطباء (خصوصا في عالمنا العربي) غير منفتحين على أنواع الطب المرافقة أو الطب البديل(médecines alternatives) على الأقل (رغم تقزمها وقلة المستقبل الواعد فيها) و أبواب التخصص في الطب العرضي تغري وتعد بمستقبلات واعدة ومضمونة.. مع العلم التام والكامل (وهذا لا يجهله أحد من الأطباء أو من العموم) أن جل الأمراض (إن لم تكن كلها) كالسكري (diabète) وأنواع السرطانات (cancers) وهشاشة العظام (l’ostéoporose) وأمراض المناعة الذاتية (maladies auto-immunes) وأمراض القلب والشرايين (maladies cardio-vasculaires) والأمراض العصبية (maladies neuro-dégénératives)... أن سببها من نظام الحياة والنظام الغذائي.. وأن علم الوراثة ليس له دور كبير في تنميتها... وأنه كان بالإمكان تلافيها أو الحصن منها بنظام غذائي متوازن وبتربية سلوكية معتدلة، وبتدخلات طبية بسيطة في البداية...

وأنا أقول هذا، وأقول معه أنه من عزائم الأمور أن تكون فحوصات عامة عندما تقتضي الضرورة ذلك (أو بدون اقتضاء، على الأقل ليطمئن الفرد على صحته)، وأقول معه ما هو أهم منه وأسبق:

وهو ما أحوجنا إلى البحث في سنة النبي الكريم في الأكل على الأقل كابتداء (وقد تعبنا من الكلام عن السنة في اللحية وتقصيف الثياب والتعدد في الأزواج) وعندما يختلون بالموائد يحتجون بقوله تعالى: قُلۡ مَنۡ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِٱلَّتِيٓ أَخۡرَجَ لِعِبَادِهِۦ وَٱلطَّيِّبَٰتِ مِنَ ٱلرِّزۡقِۚ.. ولا يجدون سندا لقول الرسول الكريم: نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا اكلنا لا نشبع..

وأقول قولا أخيرا به أختم (لأن القلم جرني كثيرا) أنه لا يمكن أن يستقيم طب حقيقي بدون مراجعة أصل الخلقة الإنسانية، ومدى مددها وسندها الذي يقوم به قوامها، ولا بد في ذلك من متخصصين يجمعون بين العلم المادي والاستنباط من العلم الأصلي الرباني، من كتاب الله وسنة رسوله الكريم... وإن قلت ذلك فإنه لا يعني للطالبين الغربيين أو الباحثين اعتناق الإسلام في البداية، كما أن الطب الصيني يعتمد في كل مبادئه على الثقافة البوذية وكذلك الرياضات، ورغم ذلك لم تؤثر في عالم المتلقين سواء من المسلمين أو من غيرهم.. وعليه فعلى المتخصصين الذين يريدون بسط علم رباني للعموم أن يراعوا نبذ التعصب في الكلام الذي لا يأتي إلا بالضرر والإضرار للأنفس والمجتعمات، اما من أراد التعمق في أصل العلوم فله الخيار في البحث على أصله.. ولا أضن الحديث الشريف يصب إلا في هذا السياق حسب هذا العصر، قال صلى الله عليه وسلم: حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذّب الله ورسوله.. وقال صلى الله عليه وسلم: ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة... .

فمن شروط تبليغ ما أنزل من عند الله على يد رسول الله أن تحترم أساليب التبليغ، قال تعالى: يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُبَلِّغۡ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَۖ وَإِن لَّمۡ تَفۡعَلۡ فَمَا بَلَّغۡتَ رِسَالَتَهُۥۚ... وإن لم يفعل المبلغون فما بلغوا عن رسول الله المبلغ عن الله..

ولعل في هذا اقدر كفاية وأختم بقوله تعالى: إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكۡرَىٰ لِمَنكَانَ لَهُۥ قَلۡبٌ أَوۡ أَلۡقَى ٱلسَّمۡعَ وَهُوَ شَهِيدٞ.. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم./.

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire