أمرك في هذه الدار بالنظر إلى مكوناته، و سيكشف لك في تلك الدار عن كمال ذاته.

قلـت: إنما أمرك في هذه الدار أن تنظر إليه بواسطة مكوناته، لأنك لا تقدر هنا أن تنظر إلى حقيقة ذاته المقدسة في عظمة الجبروت الأصلي بلا واسطة، لضعف نشأتك، و إن كان ذلك جائزا عقلا، و لذلك طلبه سيدنا موسى عليه السلام، لكن حكمة الحكيم اقتضت تغطية أسرار الربوبية بأنوار سبحات الألوهية إذ لا بد للحسناء من نقاب و للشمس من سحاب، و لو ظهر من غير رداء الكبرياء لوقع الإدراك، و لم يبق حينئذ ترقي، فالترقي في أسرار الذات إنما هو بالنظر إلى أنوار الصفات، و هو لا ينقطع أبدا في الدارين، فلا تنال الذات من غير مظهر أصلا، فالمعنى لا تقبض إلا بالحس، هذا مذهب أهل التحقيق من أهل المعاني..

و إن قلت كيف فرق الشيخ بين الرؤيتين باعتبار الدارين، و التحقيق أنها رؤية واحدة، لأن المظهر متحد، فالجواب أنه لما كان مظهر هذه الدار الحس فيه غالب على المعنى، و الحكمة ظاهرة و القدرة باطنة، و مظهر الدار الآخرة بالعكس، المعنى فيه غالب على الحس، و القدرة ظاهرة، انكشف ثم عن حقيقة الذات أكثر عما انكشف هنا، فبهذا المعنى وقع التفريق بين الرؤيتين، و مثله قول الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه في حزبه الكبير: عز الدنيا بالإيمان و المعرفة و عز الآخرة باللقاء و المشاهدة /,

هذا باعتبار الخواص، و أما العوام فلا يرون إلا الحس في هذه الدار و في تلك الدار، و أما الرؤيا التي تحصل لهم يوم المزيد، فيحتمل أن يظهر لهم نورا من أنوار قدسه و يلهمهم المعرفة فيه و هو ظاهر الحديث، أو يفنيهم عن حسهم في ذلك الوقت حتى يشهدوا معاني الذات و يتلذذوا برؤيتها ثم يردهم إلى حسهم.

و الحاصـل، أن تجلي الذات على قسمين:

قسم يكون بوسائط كثيفة، ظاهرها ظلمة و باطنها نور، ظاهرها حكمة و باطنها قدرة، ظاهرها حس و باطنها معنى، و هو تجلي هذه الدار.

و قسم يكون بوسائط لطيفة نورانية ظاهرها نور و باطنها نور، ظاهرها قدرة و باطنها حكمة، ظاهرها معنى و باطنها حس، و هو نجلي دار الآخرة.

فالعارفون لما حصل لهم الشهود و المعرفة في هذه الدار و في تلك الدار، لا يحجبهم عن الله حور و لا قصور، بل دائما في النظرة و السرور، و النظرة و الحبور، و ذلك أنهم لما عرفهم به هنا لم يحجبهم هناك، يموت المرء على ما عاش عليه، و يبعث على ما مات عليه، بخلاف العامة، فإنهم لما حجبهم هنا بشهود أنفسهم، انحجبوا هناك عن رؤية معبودهم إلا في وقت مخصوص على وجه مخصوص، و لذلك كتب ابن العربي الحاتمي إلى الإمام الرازي فقال له: تعال نعرفك اليوم بالله قبل أن تموت، فإذا تجلى الله لعباده أنكرته و لم تعرفــه، و سئل الشيح أبو محمد القادر الجيلالي رضي الله عنه عن رجل يدعي أنه يرى الله ببصره، فاستدعاه، فسأله عن ذلك فقال، نعــم، فانتهره و نهاه عن هذا القول، ثم قيل له: أمحق هو أو مبطل، فقال هو محق ملبس عليه، و ذلك أنه شهد ببصيرته نور الجمال، ثم خرق كم بصيرته إلى بصره، فنفذ، فرأى بصره بصيرته، يتصل شعاعها بنور شهوده، فظن أن بصره رأى ما شاهدته بصيرته، و إنما رأى بصره بصيرته فحسب /.

و الحاصل أنه انعكس بصره في بصيرته، فرآه ببصيرته و ظن أنه رآه ببصره، و معنى ذلك أن الروح ما دامت محجوبة بالبشرية، كان لانظر إنما هو للبصر الحسي، فلا يرى إلا الحس، فإذا استولت الروحانية على البشرية انعس نظر البصر إلى البصيرة، فلا يرى البصر إلا المعاني التي كانت تراها البصيرة، و هو معنى قول شيخ شيوخنا المجذوب:

غيبـت نظـري فــي نظـر *** و افنيـت علـى كـل فانــي

حققـت مـا وجـدت غيــر *** و امسيـت فـي الحـال هـاني

و الله تعالى أعلــم..

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire