سبحان من ستر سر الخصوصية بظهور البشرية، و ظهر بعظمة الربوبية في إظهار العبودية.

قلـت: الخصوصية هي نور الحق يشرقه الله في قلوب خواص عباده المقربين بعد تطهيرها من الأكدار، و تنزيهها عن المساوئ و الأغيار، يغيبون به عن شهود أنفسهم بشهود محبوبهم، و سرها هو ما احتوى عليه ذلك النور من الكمالات العلية و النعوت القدسية و الصفات السنية التي تليق بالمتحلى به كالكبرياء و العز و القوة و العظمة و الإجلال، و كالاتصاف بالقدرة التامة، و العلم المحيط، و سائر أوصاف الكمال، ثم إن الحق سبحانه من عظيم حكمته و باهر قدرته، إن ستر تلك الأوصاف اللازمة لذلك النور بظهور أضدادها التي هي أوصاف العبودية، فستر كبرياءه و عظمته بظهور الذل و الفقر و الضعف على العبد، و ستر قدرته و إرادته بظهور العجز و القهرية عليه، و ستر علمه المحيط بظهور الجهل و السهو إلى غير ذلك من أوصاف العبودية المقابلة لأوصاف الربوبية..

فسبحان من جعل الأشياء كامنة في أضدادها، ستر كمالات الربوبية بنقائص العبودية، و لولا ذلك لكان السر غير مصون و الكنز غير مدفون، و سيأتي قوله: ستر أنوار السرائر بكثائف الظواهر إجلالا لها أن تبتذل بالإظهار و أن ينادى عليها بلسان الاشتهار/.

و لذلك قال أبو العباس المرسي رضي الله عنه: لو كشف عن نور الولي َلعبِدَ من دون الله، و ثبت عن الشيخ أبو اليزيد رضي الله عنه قال: سبحانــي ما أعظم شأنـي، و قال الحلاج رضي الله عنه:

أنا أنت بلا شك

سبحانك سبحاني

توحيدك توحيدي

و عصيانك عصياني

و قال أيضـا:

سبحان من أظهر ناسوته

سر سناء لاهوته الثاقب

ثم بدا في خلقه ظاهرا

في صورة الآكل و الشارب

حتى لقد عاينه خلقه

كلحظة الحاجب بالحاجب

و بإظهار هذا و أمثاله قتل رضي الله عنه، فمن لطف الله تعالى و رحمته أن ستر ذلك السر بظهور نقائصه صوناذلك السر أن يظهر لغير أهله، و من أفشاه لغير أهله قتل كما فعل بالحلاج، و كما ستر سر الخصوصية بظهور أضدادها، ظهر بعظمة الربوبية في مظاهر العبودية، قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: العبودية جوهرة أظهر بها الربوبية /.

إذا الربوبية تقتضي مربوبا موصوفا بضد ما اتصف به ربه من الكمالات الإلهية و النعوت القدسية، فما ظهرت أوصاف الربوبية التي هي الغنى و العز و القدرة و غير ذلك من الكمالات إلا في أضدادها من الفقر و الذل و الضعف و غير ذلك..

فالفقر الحقيقي شامل لسائر الموجودات، و الغنى المطلق واجب لمن تجلى في الأرض و السماوات، يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله، و الله هو الغني الحميد، فــإذا تقرر هذا علمت أن الإضافة في سر الخصوصية ليست للبيان، بل هي للتخصيص، فسر الخصوصية غيرها، إذ الخصوصية هي النور الذي يقذفه الله سبحانه في قلوب أوليائه، و سرها هو الكمالات التي تلازم ذلك النور كما تقدم..

و اعلــم أن سر الخصوصية الذي جعل الله في بواطن أوليائه، و ستره بظهور وصف بشريتهم قد يظهره عليهم على وجه خرق العادة، فقد يظهر على وليه من قدرته و علمه و سائر كمالاته ما تحار فيه العقول و تذهل فيه الأذهان، لكن لا يدوم ذلك لهم، بل يكون على سبيل الكرامات و خرق العادات، تشرق عليهم شموس أوصافه فيتصفون بصفاته، ثم يقبض ذلك عنهم فيردهم إلى حدودهم..

فنور الخصوصية، و هي المعرفة، ثابت لا يزول، ساكن لا يتحول، و سرها و هو كمالاته تعالى، تارة يشرق على أفق بشريتهم فيستنير بأوصاف الربوبية، و تارة ينقبض عنهم فيردون إلى حدودهم و شهود عبوديتهم، فالمعرفة ثابتة و الواردات مختلفة، و الله تعالى أعلــم..

و اعلــم، أن أوصاف البشرية التي ستر الله بها سر الخصوصية، إنما هي الأوصاف الذاتية اللازمة للبشر كالأكل و الشرب و النوم و النكاح، لا الأوصاف المذمومة المناقضة للعبودية كالكبر و العجب، و الحسد و الغضب و غير ذلك، فإن تلك الأوصاف ذهبت بظهور نور العناية و سابق الهداية، إذ لا تثبت الخصوصية إلا بعد محوها بخلاف الأوصاف الذاتية، فإنها تجامع الخصوصية كما سيأتي إن شاء الله، بل هي حجابها و صوانها، و بوجودها وقع الستر و الخفاء لأولاء الله تعالى غيرة عليهم أن يعرفهم لا يعرف قدرهم..

قال في لطائف المنن: فأولياء الله أهل كهف الإيواء، فقليل من يعرفهم، و سمعت الشيخ أبو العباس رضي الله يقول: معرفة الولي أصعب من معرفة الله، فإن الله معروف بكماله و جماله، و كيف يعرف مخلوق مثلك يأكل كما تأكل و يشرب كما تشرب، و إذا أراد الله أن يعرفك بولي من أوليائه طوى عنك وجود بشريته و أشهدك وجود خصوصيته /.

تنبيــه: هذا النور الذي أشرقه الله في قلوب أوليائه كان كامنا في الروح في أصل بروزها، فأصلها نورانية عالمة بأسرار الغيب داركة للأشياء على حقيقتها، و إنما حجبها عن ذلك سجنها في هذا البدن الطيني و اشتغالها بحظوظه و شهواته، فمن أدبها و ريضها على شيخ كامل رجعت إلى أصلها، قال في المباحــث:

و لم تزل كل النفوس الأحيا

علامة داركة للأشيا

و إنما تعوقها الأبدان

و الأنفس النزع و الشيطان

فكل من أذاقهم جهاده

أظهر للقاعد خرق العادة

فإذا كمل تطهير الروح من الأغيار و أشرقت عليها شموس الأنوار كوشفت بأسرار الذات و أنوار الصفات، فغرقت في بحر التوحيد الذي تكل عنه العبارة، و لا تلحقه الإشارة، و هو التوحيد الخاص الذي أشار إليه الهروي بقوله:

ما وحد الواحد من واحد

إذ كل من وحده جاحد

توحيد من ينطق عن نعته

عارية أبطلها الواحد

توحيده إياه توحيده

و نعت من ينعته لاحد

و مضمنه أن الحق سبحانه تولى توحيد نفسه بنفسه، فكــل من ادعى أنه وحده بنفسه فهو جاحد لوحدانيته حيث أشرك معه نفسه، و كل من ينعته بنفسه فهو لاحد، أي مائل عن الصواب، و الله تعالى أعلــم..

 

سر الطلب في حسن الأدب

فإذا طلبت ربك في تطهيرك من وصف البشرية ليكشف لك سر الخصوصية، ثم تأخر مطلبك فإنما ذلك من سوء أدبك كما نبه عليه بقولــه:

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire