من عبده لشيء يرجوه منه، أو ليدفع بطاعته ورود العقوبة عنه، فما قام بحق أوصافه، متى أعطاك أشهدك بره، و متى منعك أشهدك قهره، فهو في كل ذلك متعرّف إليك، و مقبل بوجود لطفه عليك، إنما يؤلمك المنع لعدم فهمك عن الله فيه.
من عبده لشيء يرجــوه منه، أو ليدفع بطاعته ورود العقوبة عنه، فما قام بحق أوصافه
قلـت: الناس في عبادة الله على ثلاثة أقسام:
فمنهم من يعبد الله خوفا من عقوبة معجلة أو مؤجلة، أو طمعا في رحمته و حفظه عاجلا أو آجلا، و هم عوام المسلمين، و فيهم قال عليه الصلاة و السلام: "لولا النار لما سجد لله ساجــد".
و منهم من يعبد الله محبة في ذاته و شوقا إلى لقائه، لا طمعا في جنته و حفظه، و لا خوفا من ناره و نكاله، و هم المحبون العاشقون من السائرين..
و منهم من يعبد الله قياما بأوصاف العبودية، و أدبا مع عظمة الربوبية، أو تقــول صدقا في العبودية و قياما بوظائف الربوبية، و هم المحبون العارفون..
فالقسم الأول عبادته بنفسه لنفسه و الثاني عبادته بنفسه لله، و الثالث عبادته بالله إلى الله، فمــن عبد الله لشيء يرجوه في الدنيا أو في الآخرة، فما قام بحق أوصاف الربوبية التي هي العظمة، و الكبرياء، و العزة، الغنى، و جميع أوصاف الكمال، و نعوت الجلال و الجمال، إذ نعوت الربوبية من العظمة، و الجلال يقتضي خضوع العبودية و الانكسار و الإذلال..
أرأيت إن لم تكن جنة و لا نار، ألم يكن أهلا لأن يعبد الواحد القهار..
أرأيت من أنعم بنعمة الإيجاد و الإمداد، أليس أهلا لأن يشكره جميع العباد، فمن كان عبدا مملوكا لسيده لا يخدمه في مقابلة نواله و رفده، بل يخدمه لأجل عبوديته و رقه، و سيده لا محالة يقوم بمؤونته و رزقه، أيبرزك لوجوده و يمنعك من جوده، أيدخلك داره و يمنعك إبراره، لقــد أسأت الظن بالرب الكريم إن اعتقدت أنك إن لم تعبده منعك من جوده العظيم، لقد أجرى عليك منته، و رزقك و أنت في ظلمة الأحشاء، ثم حين أظهرك لوجوده و بسط لك من جوده، و جعلك تتصرف فيه كيف تشاء، و تصنع به ما تشاء، و مما وجد مكتوبا بقلم القدرة في حجر الكعبة:
تذكر جميلي فيك إن كنت نطفة |
و لا تنس تصويري لشخصك في الحشا |
و كن واثقا بي في أمورك كلهـا |
سأكفيك منها ما يخاف و يختشــى |
و سلم إلي الأمر و اعلم بأننـي |
أصرف أحكامي و أفعل ما أشـــا |
فاستحي من الله أيها الإنسان أن تطلب أجرا على عبادة أجراها عليك الواحد المنان، و اذكر قوله تعالى:( الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ) الأعراف43، و قوله تعالى:( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) القصص68، و قوله تعالى:( وَمَا تشاءون إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ) الإنسان 30، و قال صلى الله عليه و سلم:" لا يكن أحدكم كالعبد السوء إذا خاف عمـل، و لا كـالأجير السوء إن لم يعط الأجر لم يعمـل" ، و قال سيدنا عمر رضي الله عنه: نعــم العبد صهيـب، لو لم يخف الله لم يعصـه..
و قال وهب بن منبه: في زبور داود عليه السلام، يقول الله تعالى: و من أظلم لمن عبدني لجنة أو نار، لو لم أخلق جنة و لا نار، ألم أكن أهلا لأن أطـاع/.
و في أخبار داود عليه السلام أيضا، إن الله أوحى إليه أن أود الأوداء إليّ من عبدني لغير نوال، لكن ليعطي الربوبية حقها/.
ثم إن رفعت همتك عن طلب الحظوظ صبت عليك الحظوظ، فقد ورد في بعض الأخبار أن الله يحفظ الأولاد و أولاد الأولاد بطاعة الأجداد لقوله تعالى: ( و كان أبوهما صالحا) الكهف82، فقد حفظ الله كنزهما بصلاح أبيهما، فقد صبت الحظوظ على الأولاد و هو حفظهم بترك الآباء الحظوظ، و كان سعيد بن المسيب يقول لولده إني لأطيل الصلاة من أجلك/.
أدب النظر إلى عطائه و منعه سبحانه
متى أعطاك أشهدك بره، و متى منعك أشهدك قهره
فهو في كل ذلك متعرف إليـك، و مقبل بوجود لطفه عليــك
قلـت: من أسمائه تعالى اللطيف، و الرحيم، فهو تعالى لطيف بعباده رحيم بخلقه في كل وقت و حين، و على كل حال، سواء أعطاهم أو منعهم، و سواء بسطهم أو قبضهم، فإن أعطاهم أو بسطهم أشهدهم بره و إحسانه، فعرفوا أنه سبحانه بار بعباده لطيف بخلقه رحيم كريم جواد محسن، فتعظم محبتهم فيه، و يكثر شوقهم و اشتياقهم إليه، و يكثر شكرهم فيزداد نعيمهم، و في هذا ما لا مزيد عليه من البر و الإحسان و الجود و الامتنان، و إن منعهم أو قبضهم أشهدهم قهره و كبرياءه، فعلموا أنه تعالى قهار كبير عظيم جليل، فخافوا من سطوته، و ذابوا من خشيته، و خضعوا تحت قهره، فدامت عبادتهم و قلت ذنوبهم، و محيت مساوئهم و اضمحلت خطيئاتهم ، فوردوا يوم القيامة خفافا مطهرين فرحين مبهجين، إذ لا يجمع الله على عبده خوفين، و لا أمنيـن، فمن أخاف في الدنيا أمنه يوم القيامة، و من أمنه في الدنيا فاغتر، أخافه يوم القيامة..
فلا تتهم ربك أيها العبد في المنع و لا في العطاء، فإنه متى أعطاك أشهدك بره و رحمته و كرمه، فعرفت بذلك أنه بر كريم رؤوف رحيم، فتتعلق بكرمه و جوده دون غيره، فتتحرر من رق الطمع، و يذهب عنك الغم و الجزع، و تتخلق أيضا بوصف الكرم و الرحمة و الإحسان، فإن الله يحب أن يتخلق عبده بخلقه، و في الحديث:تخلقوا بأخلاق الرحمــن..
و لما سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه و سلم قالت: كان خلقه القرآن، و القرآن فيه أوصاف الرحمن، فكأنها قالت: كان خلقه خلق الرحمن، إلا أنها احتشمت الحضرة و تأدبت مع الربوبية..
و متى منعك أو قبضك أشهدك قهره و كبرياءه، فعرفت أنه قهار جبار، فيعظم خوفك و تشتد هيبتك و حياؤك منه، فلا جرم أن الله يعظمك و يكرمك، و يحفظك و يستحيي منك كما استحييت منه، فإن الله ينزل عبده على قدر منزلته منه، و إنما يطيع العبد ربه على قدر معرفته به و خوفه منه، فهو سبحانه في كل ذلك من عطاء و منع، و قبض و بسط، متعرف إليك، أي طالب منك أن تعرفه بصفاته و أسمائه، و ما من اسم من أسمائه تعالى إلا اقتضى ظهور ما يطلبه، فاسمه الكريم اقتضى الإعطاء و الإحسان وهو ظاهر في خلقه، و اسمه المانع اقتضى ظهور المنع، فظهر في عباده أيضا، و اسمه المنتقم اقتضى ظهوره في قوم وجههم لمخالفته، و اسمه القهار اقتضى ظهوره في قوم يقهرهم على ما يريد من منع أو غيره، قهره أيضا في عباده بالموت، فهو من مقتضى اسمه القهار..
و هكذا كل اسم يقتضي ظهوره في الوجود، و كلها في بني آدم، فإذا تحققت هذا في حالة الإعطاء و المنع، علمت أيضا أنه مقبل بوجود لطفه و إبراره عليك، إذ هو متعرف إليك في كل شيء، و مقبل عليك في كل وجه، فاطلب أيضا أنت معرفته في كل حال، و اعرف منته عليك في الجمال و الجلال، فأقبل عليه بكليتك، و استسلم لقهره بروحك و بشريتك تكن عبده حقـا و هو ربك حقـا و صدقا، و الله تعالى أعلم..
و يؤخذ من هذه الحكمة أن المدار إنما هو على قوة الروحانية، التي هي المعرفة في الجلال و الجمال، لا على قوة البشرية، لأن بمنعه يحصل للعبد الكمال، و بالله التوفيق..
ثم هذا كله إنما يذوقه من يفهم عن الله كما تقدم و إلى ذلك أشار بقوله:
إنمــا يؤلمـك المنــع لعدم فهمــك عــن الله فيــه
قلـت: لأن الفهم عن الله يقتضي وجود المعرفة به، و لا تكون المعرفة كاملة حتى يكون صاحبها يعرفه في الجلال و الجمال و المنع و العطاء و القبض و البسط، و أما إن كان لا يعرفه إلا في الجمال، فهذه معرفة العوام الذين هم عبيد أنفسهم، فإن أعطوا رضوا، و إن لم يعطوا إذا هم يسخطون، و أيضا من ثمرات المعرفة، و التسليم و الرضى لما يجري به القضاء، و من ثمرات المحبة و الهوى و الصبر عند الشدائد و البلوى..
تدعي مذهب الهوى ثم تشكو |
أي دعواك في الهوى قل لي أينا |
لو وجدناك صابرا لهوانـــا |
لأعطيناك كل ما تتمنـــا |
فلا يكون المحب صادقا في محبته، و لا العارف صادقا في محبته حتى يستوي عنده المنع و العطاء و القبض و البسط و الفقر و الغنى و العز و الذل و المدح و الذم و الفقد و الوجد و الحزن و الفرح فيعرف محبوبه في الجميع.
و قال القائل: حبيبي و محبوبي على كل حالة، و يرضى و يسلم له في الجميع، فإن لم يجد ذلك عنده سواء فلا يدعي مرتبة العشق والهوى، فيعرف قدره و لا يتعدى طوره، و لا يترامى على مراتب الرجال، من ادعى ما ليس فيه كذبته شواهد الامتحان، و قال ابن الفارض رضي الله عنه:
فإن شئت أن تحيى سعيدا فمت به |
شهيدا و إلا، فالغرام له أهل |
و قال إبراهيم الخواص رضي الله عنه: و لا يصح الفقر للفقير حتى تكون فيه خصلتان، إحداهما الثقة بالله، و الثانية الشكر لله فيما زوي عنه مما ابتلي به غيره من الدنيا..
و قيل لبعضهم ما الزهد عندكم قال: إذا وجدنا شكرنا و إذا فقدنا صبرنا، فقال هذه حالة الكلاب عندنا في بلخ، فقال و ما الزهد عندكم أنتم قال: إذا فقدنا شكرنا و إذا وجدنا آثرنا/،
فهذا هو الفهم عن الله حيث شكر حين الفقد، لأنه عد الفقد نعمة، و الفاقة غنى لما يجد فيها من المواهب والأسرار، و لما يترقب فيها من ورود الواردات و الأنوار، و لو لم يكن إلا التفرغ من الشواغل و الأغيار، و بهذا تزكو الأحوال و تعظم الأعمال، و يتأهل صاحبها إلى القبول و الإقبال، و إلا فلا عبرة بصور وجودها..
أدب النظر إلى الطاعــة و المعصيـة
0 Commentaire(s)