جل ربنا أن يعامله العبد نقدا فيجازيه نسيئة، كفى من جزائه إياك على الطاعة أن رضيك لها أهلا، و كفى العاملين جزاء ما هو فاتحه على قلوبهم في طاعته، و ما هو مورده عليهم من وجود مؤانسته.

جــل ربنــا أن يعامله العبد نقـدا فيجازيه نسيئـة

قلــت: النقد ما كان معجلا و النسيئة ما كان مؤخرا، و من شأن الكريم إذا اشترى شيئا أن ينجزه نقده، و يزيد إحسانه و رفده، و قد اشترى الحق تعالى منا أنفسنا و أموالنا، فعوضنا بها الجنة، فمن باع نفسه و ماله و نقدهما و سلمهما إليه، عوضه الله جنة المعارف عاجلا و زاده جنة الزخارف آجلا، مع ما يتحفه به من أنواع النعيم، و دوام الشهود و النظر إلى وجهه الكريم، فجــل ربنا أي تنزه و ترفع، أن يعامله العبد نقدا أي معجلا، فيجازيه نسيئة أي مؤخرا، بل لا بد أن يعجل له ما يليق في هذه الدار، و يدخر له ما يليق به في تلك الدار، و الذي عجل له سبحانه في هذه الدار أمور منها:

ما يدفع عنه من المضار و يجلب له من المنافع و المسار لقوله تعالى: (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ)الأعراف196، و قال تعالى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) الطلاق3، و قال تعالى: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) يونس62، و قد يتعدى ذلك إلى عقبه كما تقدم..

و منها ما يشرق عليه من الأنوار و يكشف لقلبه من الأسرار و هي أنوار التوجه، و أنوار المواجهة، قال تعالى: (يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً) و هو نور يفرق بين الحق و الباطل، و قال تعالى: (وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) البقرة 282، و قال تعالى:( اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ) البقرة 257، و يخرجهم من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان، و من ظلمة المعصية إلى نور الطاعة، و من ظلمة الغفلة إلى نور اليقظة، و من ظلمة الحس إلى نور المعنى، و من ظلمة الكون إلى نور المكون..

و منها التوفيق و الهداية لها قبل عملها حتى جعلك أهلا للوقوف بين يديه، و هو الذي أبانه بقولــه:

 

كفــى من جزائه إيــاك على الطاعـة أن رضيـك لها أهــلا

قلــت: لأن الملك لا يدعو لخدمته إلا من يريد أن يكرمه، و لا يدخل لحضرته إلا من يريد أن يعظمه، و لا ينسب له إلا أهل الفضل و التكرمة، فلولا فضل الله عليكم و رحمته ما زكى منكم من أحد أبدا..

 

فالتوفيق لها أعظم منة و أكبر جزاء على وجودها لأنها تحقق للعبد ثلاثا:

تصحيح النسبة لمولاه بوجه ما، و وجود الإقبال عليه بصورة ما، و إقامة رسم العبودية في الجملة، و الله أعلم..

قال الشيخ زروق رضي الله عنه: و منها ما يرد على قلبه حال عملها من المؤانسة به و القرب له، و هو الذي ذكره بقوله:

كفى العاملين جزاء ما هو فاتحه على قلوبهم في طاعتــه..

و مــا هو مـورده عليهــم من وجـود مؤانستـــه..

قلـت: و الذي فتحه على قلوبهم في حالة العمل ثلاث: محاضرة أو مراقبة أو مشاهدة،

فالمحاضرة للطالبين، و المراقبة للسائرين، و المشاهدة للواصلين..

و المحاضرة للعموم، و المراقبة للخصوص و المشاهدة لخصوص الخصوص، و الكل يسمى خشــوعا، قال بعضهم: الخشوع إطراق السر على بساط النجوى باستكمال نعت الهيبة و الذوبان تحت سلطان الكشف و الإنمحاء عند غلبات التجلي/.

و يختص المقام الثالث بقرن العين، و قال الشيخ زروق: ما يجده في حالة الطاعة ثلاث:

أولهـا: وجود الأنس به فيها يروح إقباله و منه ما يقع من الرقة و الخشوع..

الثانـي: وجود التملق بين يديه، و له حلاوة ينسى بها كل شيء..

الثالـث: حصول الفهم و الفوائد العلمية، و الإلهامات اللدنية التي بها يترك كل شيء، قال بعضهم، في الدنيا جنة، من دخلها لم يشتق إلى جنة الآخرة، و لا إلى شيء، و لم يستوحش أبدا، قيــل: و ما هي: قال معرفة الله..

و قال بعض العلماء ليس في الدنيا ما يشبه نعيم الجنة إلا ما يجده أهل التملق في قلوبهم بالليل من حلاوة المناجاة، و كان بعضهم يقول: التملق للحبيب و المناجاة للقريب في الدنيا، ليس من الدنيا، هو من الجنة، أظهره الله في الدنيا، لا يعرفه إلا هم، و لا يجده سواهم روحا لقلوبهم/.

و منها ما يجده من الثمرات بعد عملها و هو الذي أشار إليه بقوله:

و مــا هو مـورده عليهــم من وجـود مؤانستـــه

قلـت: هذه المؤانسة التي يجدها العامل بعد العمل على ثلاثة أقسام:

مؤانسة ذكر و هي لأهل الفناء في الأفعال..

و مؤانسة قرب و هي لأهل الفناء في الصفات، و هم أهل الاستشراف..

و مؤانسة شهود، و هو لأهل الفناء في الذات..

فالأول لأهل الإسلام و الثاني لأهل الإيمان و الثالث لأهل الإحسان..

فمؤانسة الأول توجب له الفرار من الناس و الوحشة منهم، و مؤانسة الثاني توجب له القرب منهم مع الحذر، و مؤانسة الثالث توجب الصحبة لهم و مخالطتهم لأنه يأخذ منهم و لا يأخذون منه..

فالأول لا تليق له إلا العزلة لضعفه، و الثاني تليق له الصحبة مع العسة ليتعلم القوة، فهو يشرب منهم و لا يشربون منه لبعده منهم بقلبه، و الثالث لا تليق به إلا الصحبة لتحققه بالقوة، فهو يأخذ النصيب من كل شيء، و لا يأخذ النصيب منه شيء، يصفو به كدر كل شيء و لا يكدر صفوه شيء، و مؤانسة القرب توصل لمؤانسة القرب، و مؤانسة القرب توصل لمؤانسة الشهود، فمن صعد عقبة أفضت به إلى راحة ما بعدها..

قال بعض العارفين: ليس شيء من الطاعات إلا و دونه عقبة كؤود يحتاج فيها إلى الصبر، فمن صبر على شدتها أفضى إلى الراحة و السهولة، و إنما هي مجاهدة النفس، و مخالفة الهوى، ثم و الله مكابدة في ترك الدنيا ثم اللذة التنعم، أي ثم تكون لذة الطاعة و تنعم المعرفة..

ثم ينبغي لك أيها المريد ألا تقصد شيئا من هذه الأمور التي يجازيك الله تعالى بها كانت معجلة أو مؤجلة، فأن ذلك نقص في إخلاصك و ناقص لصدق عبوديتك كما أشار إلى ذلك بقوله:

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire