إذا فتح لك وجها من التعرف فلا تبال معها إن قل عملك، فإنه ما فتحها عليك إلا وهو يريد أن يتعرف إليك، ألم تعلم أن التعرف هو مورده عليك، و الأعمال أنت تهديها إليه، و أين ما تهديه إليه مما هو مورده عليك.

فتح هنا بمعنى هيأ و يسر، و الغالب استعماله في الخير، فاتسع الإتيان به هنا أن جهة التعريف من الأمور الجميلة، و الوجهة هي الجهة، و المراد هنا الباب و المدخل، و التعرف طلب المعرفة كأن تقول: تعرف إلي فلان، إذا طلب مني معرفته، و المعرفة تمكن حقيقة العلم بالمعروف من القلب..

   قلت: إذا تجلى لك الحق باسمه الجليل أو باسمه القهار، و فتح لك منها بابا، و وجهة لتعرفه منها، فاعلم أن الله تعالى قد اعتنى بك، و أراد أن يجتبيك لقربه، و يصطفيك لحضرته، فالتزم الأدب معه بالرضا و التسليم، و قابله بالفرح و السرور، و لا تبال بما يفوتك بها معها من الأعمال البدنية، فإنما هي وسيلة للأعمال القلبية، فإنه ما فتح هذا الباب إلا و هو يريد أن يرفع بينك و بينه الحجاب، ألم تعلم أن التعرفات الجلالية هو الذي أوردها عليك لتكون عليه واردا، و الأعمال البدنية أنت مهديها إليه لتكون بها إليه واصلا، و فرق كبير بين ما تهديه أنت من الأعمال المدخولة و الأحوال المعلولة، و بين ما يورده عليك الحق تعالى من تحف المعارف الربانية، و العلوم اللدنية، فطب نفسا أيها المريد بما ينزل إليك من هذه التعرفات الجلالية و النوازل القهرية، و مثل ذلك كالأمراض و الأوجاع و الشدائد و الأهوال و كل ما يثقل على النفس و يؤلمها، كالفقر و الذل، و أذية الخلق و غير ذلك مما تكره النفس، فكل ما ينزل بك من هذه الأمور فهي نعم كبيرة، و مواهب غزيرة تدل على قوة صدقك، إذ بقدر ما يعظم الصدق يعظم التعرف، أشدكم بلاء الأنبياء، و الصالحون ثم الأمثل فالأمثل .

   و الصدق متبوع، و إن أراد الله أن يطوي مسافة البعد بينه و بين عبده، حتى إذا تخلص و تشحر صلح للحضرة كما تصفى الفضة و الذهب بالنار لتصلح لخزانة الملك.. و ما زالت الشيوخ و العارفون يفرحون بهذه النوازل، و يستعدون لها في كسب المواهب، و كان شيخ شيوخنا سيدي علي العمراني يسميها ليلة القدر، و يقول " للا الحزة " هي ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر، و ذلك لأجل ما يجتبيه العبد منها من أعمال القلوب، حيث تكون الذرة منها أفضل من أمثال الجبال من أعمال الجوارح، و قد قلت في ذلك بيتين و هما:

إذا طرقت بابي من الدهر فاقــة
 

فتحت لها باب المسرة و البشــر
  

و قلت لها أهلا و سهلا و مرحبا
 

فوقتك عندي أحظى من ليلة القدر
  

 

   و اعلم أن هذه التعرفات الجلالية هي اختبار من الحق، و معيار للناس و بها تعرف الفضة و الذهب من النحاس، فكثير من المدعين يظهرون على ألسنتهم المعرفة و اليقين، فإذا وردت عليهم عواصف رياح الأقدار ألقتهم في مهاوي القنط و الإنكار، فمن ادعى ما ليس فيه فضحته شواهد الامتحان، و كان شيخ شيوخنا مولاي العربي يقول: العجب كل العجب ممن يطلب معرفة الله و يحرص عليها، فإذا تعرف له الحق تعالى هرب منه و أنكره، و قال شيخنا اليوزيدي رضي الله عنه: هذه التعرفات الجلالية على ثلاثة أقسام، قسم عقوبة و طرد، و قسم تأديب و تنبيه، و قسم زيادة و ترقي..

   فأما الذي هو عقوبة و طرد فهو الذي يسيء الأدب فيعاقبه الله تعالى و يجهل فيها، فيسخط و يقنط و ينكر، فيزداد من الله طردا و بعدا، و أما الذي هو الذي زيادة و ترق، فهو الذي تنزل به هذه التعرفات من غير سبب، فيعرف فيها و يتأدب معها و يرتقى بها إلى مقام الرسوخ و التمكين.

   بالمعنى قلت: و لذلك قال بعضهم: بقدر الامتحان يكون الامتكان، و قال أيضا أخبار الباقي يقطع التباقي..

   فائـــدة : إذا أردت أن يسهل عليك الجلال، فقابله بضده و هو الجمال، فإنه ينقلب جمالا في ساعته، و كيفية ذلك، أنه إذا تجلى باسمه القابض في الظاهر فقابله أنت بالبسط في الباطن، فإنه ينقلب بسطا، و إذا تجلى لك باسمه القوي فقابله أنت بالضعف، أو تجلى باسمه العزيز فقابله بالذل في الباطن، و هكذا يقابل الشيء بضده قياما بالقدرة و الحكمة، و كان شيخ شيوخنا مولاي العربي يقول: ما هي إلا حقيقة واحدة، إن شربتها عسلا وجدتها عسلا، و إن شربتها لبنا وجدتها لبنا، و إن شربتها حنظلا وجدتها حنظلا، فاشرب يا أخي المليح و لا تشرب القبيح..

   و المعنى من كلامه رضي الله عنه، كما تقدم، كما تقابله يقابلك، و الله تعالى أعلم..

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire