من رأيته مجيبا عن كل ما سئل، و معبرا عن كل ما شهد، و ذاكرا كل ما علم، فاستدل بذلك على وجود جهله.

قلـت: أما وجه جهله فكونه مجيبا عن كل ما سئل، فلما يقتضيه حاله من الإحاطة بالعلوم و قد قال تعالى: (وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) الإسراء85 فأي جهل ممن يعارض كلام الله، و لما فيه أيضا من التكلف، و قد قال تعالى: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) ص86، و قال عليه الصلاة و السلام: " أنا و أتقياء أمتي براء من التكلف"، و لا يخلو صاحب التكلف من التصنع و التزين و هو من شأن الجهل بالله، إذ لو كان عالما به لاكتفى بعلمه و عرف قدره، ففي بعض الأخبار عاش من عرف قدره، و سئل بعضهم عن العلم النافع فقال: أن تعرف قدرك، و لا تتعدى طورك، و قال بعض المحققين: إذا قال العالم لا أدري أصيبت مقالته، و قال في الإحياء:

كان السلف الصالح يسأل أحدهم في المسألة الواحدة فيدفع السائل إلى غيره، ثم يدفعه الثاني إلى آخر، ثم كذلك حتى يرجع إلى الأول، و كان بعضهم يسأل عن المسألة فيقال له اذهب إلى القاضي فقلدها في عنقه..

و قد سئل مالك رحمه الله عن اثنين و ثلاثين مسألة فأجاب عن ثلاثة، و قال في الباقي لا أدري، فقال له السائل، و ما نقول للناس، فقال: قل لهم قال مالك لا أدري..

و أيضا إجابة كل سائل جهل و ضرر، إذ قد يكون السائل متعنتا لا يستحق جوابا، و قد تكون المسألة التي سأل منها لا تليق به لأنه لا يفهمها، و لا يطيق معرفتها، فتوقعه في الحيرة أو الإنكار، و قد قال سبط النبي عليه السلام: لا تؤتوا الحكمة غير أهلها فتظلموها، و لا تمنعوها أهلها فتظلموهم، و في ذلك يقول الشاعر:

سأكتم علمي عن ذي الجهل طاقتي

و لا أنثر الدر النفيس على البهم

فإن قدر الله الكريم بلطفــــه

و لاقيت أهلا للعلوم و للحكـم

بذلت علومي و استفدت علومهم

و إلا فمخزون لدي و مكتتــم

فمن منح الجهال علما أضاعــه

و من منع المستوجبين فقد ظلــم

و قال علي كرم الله وجهه: حدث الناس بقدر ما يفهمون، أتريدون أن يكذب الله و رسوله، و قد قيل للجنيد رضي الله عنه: يسأل الرجلان، فيجيب هذا بخلاف ما يجيب هذا، فقال: الجواب على قدر السائل، قال صلى الله عليه و سلم: أمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم..

و قال رجل لبعض العلماء و قد سأله فلم يجبه: أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال:" من كتم علما نافعا ألجم يوم القيامة بلجام من النار" فقال العالم: اترك اللجام و اذهب، فإن جاء من يستحقه و كتمته فليلجمني به /.

و أما وجه جهله في كونه معبرا عن كل ما شهد من الكرامات، و ما وصل إليه من المقامات، و ما ذاقه من الأنوار و الأسرار، فلأن هذه الأمور أذواق باطنية و أسرار ربانية لا يفهمها إلا أربابها، فذكرها لمن لا يفهمها و لا يذوقها جهل بقدرها، و أيضا هي أمانات و سر من أسرار الملك، و سر الملك لا يحل إفشاؤه، فمن أفشاه كان خائنا و استحق الطرد و العقوبة، و لا يصلح أن يكون أمينا بعد ذلك، فكتم الأسرار من شأن الأخيار، و هتك الأسرار من شأن الأشرار، و قد قالوا:قلوب الأحرار قبور الأسرار.. و قال الشاعــر:

لا يكتم السر إلا كل ذي ثقــة

فالسر عند خيار الناس مكتــوم

و في إفشائها قلة عملها و نفعها في الباطن، ففائدة هذه الأحوال و الواردات الإلهية هي محو الحس و إظهار المعنوي، أو محو الشك و تقوية اليقين، فإذا أفشاها ضعف أعمالها و قلت نتيجتها، و الخير كله في الكتمان، و في الحديث: " استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان" أو كما قال عليه السلام، و ينخرط في سلك الأحوال التي يجب كتمانها خرق عوائد النفوس، فمن خرق عادة في نفسه فلا يفشي ذلك لغيره، فإن في ذلك دسيسة لها، لأنها تحب أن تذكر بالقوة و النجدة، فيكون كلما قتل منها أحياه في ساعته، و فيه أيضا نقص الإخلاص و إدخال الرياء و هو سبب الهلاك و العياذ بالله، و أما وجه جهله في كونه ذكرا لكل ما علم من الحقائق و العلوم و المعارف، فلأنه جهل قدرها و استخف شأنها، فلو كانت عنده رفيعة عزيزة ما أفشاها لغيره، إذ صاحب الكنز لا يبوح به و إلا سلبه من ساعته، و انظر شيخ شيوخنا المجذوب رضي الله عنه:

احفر لسرك و دكـو

في الأرض سبعين قامة

و خلي الخلايق يشكو

إلى يوم القيامـــة

و إذا كان الله تعالى يقول: (وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ) فكيف بالعلم الذي هو لؤلؤ مكنون، قال صلى الله عليه و سلم: "إن من العلم كهيئة المكنون لا يعرفه إلا العلماء بالله فإذا أظهروه أنكره أهل الغربة بالله" ..

و قال أبو هريرة رضي الله عنه: حفظت من رسول الله صلى الله عليه و سلم جرابين من العلم، أما أحدهما فبثته في الناس، و أما الآخر فلو بثته لقطع مني هذا البلعوم..

و لله در زين العابدين سيدنا علي بن الحسين بن علي كرم الله وجهه حيث قال:

يا رب جوهر علم لو أبوح به

لقيل إلي أنت ممن يعبد الوثـن

و لاستحل رجال مسلمون دمي

يرون أقبح ما يأتونه حســنا

إني لأكتم من علمي جواهـره

كي لا يرى الحق ذو جهل فيفتنا

و قال الروذابادي رحمه الله: علمنا هذا إشارة، فإذا صار عبارة خفي، و قال الإمام الغزالي: قد تضر الحقائق بأقوام كما يتضرر الجعل بالورد و المسك..

قلــت: قد يرخص للعارف الماهر إلقاء الحقائق مع من لا يعرفها بعبارة رقيقة، و إشارة لطيفة، و غزل رقيق، بحيث لا يأخذ السامع منها شيئا، فقد كان الجنيد رضي الله عنه يلقي الحقائق على رؤوس الأشهاد، فقيل له في ذلك فقال: جانب العلم أحمى من أن يأخذه غير أهله، أو علمنا محفوظ من أن يأخذه غير أهله..

ثم إن الإجابة عن كل ما يسأل عنه و التعبير عن كل ما يشاهد، و ذكر كل ما يعلم يوجب إقبال الخلق عليهم، و تعظيمهم و إكرامهم في هذه الدار، لأن من ظهرت مزيته وجبت خدمته، و من شأن العامة تعظيم صاحب الكرامة، فيجني ثمرة علمه و عمله في هذه الدار الفانية، و تفوته درجات الصديقين في تلك الدار الباقية، فأمره بكتمها و يقنع بعلم الله، و يدخر الجزاء عليها ليوم لقاء الله..

 

السر في ادخار الجزاء إلى يوم القيامة

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire