ما قل عمل برز من قلب زاهد، و لا كثر عمل برز من قلب راغب.

قلـت: الزهد في الشيء هو خروج محبته من القلب و برودته منه، و عند القوم بغض كل ما يشغل عن الله، و يحبس عن حضرة الله، و يكون أولا في المال، و علامته أن يستوي عنده الذهب و التراب و الفضة و الحجر، و الغنى و الفقر، و المنع و العطاء..

و يكون ثانيا في الجاه و المراتب، و علامته أن يستوي عنده العز و الذل، و الظهور و الخمول، و المدح و الذم، و الرفعة و السقوط.

و يكون ثالثا في المقامات، الكرامات و الخصوصيات، و علامته أن يستوي عنده الرجاء و الخوف و القوة و الضعف، و البسط و القبض، يسير بهذا كما يسير بهذا، أو يعرف في هذا كما يعرف في هذا، ثم يكون الزهد في الكون بأسره بشهود المكون و أمره، فإذا تحقق المريد بهذه المقامات في الزهد أو جلها، كان عمله كله عظيما كبيرا في المعنى عند الله، و إن كان قليلا في الحس عند الناس، و هذا معنى قوله صلى الله عليه و سلم: " عمل قليل في سنة، خير من عمل كثير في بدعة " و أي بدعة أعظم و لا أشنع من حب الدنيا و الانكباب عليها بالقلب و القالب، الذي لم يكن في زمنه صلى الله عليه و سلم، و لا في زمن الصحابة حتى ظهرت الفراعنة فبنوا و شيدوا و زخرفوا، فهذه البدعة الحقيقية، فعمل هؤلاء قليل في المعنى و إن كان كثيرا في الحس، إذ لا عبرة بحركة الأشباح، و إنما العبرة بخضوع الأرواح، عبادة الزاهد بالله لله، و عبادة الراغب بالنفس للنفس، عبادة الزاهد حية باقية، و عبادة الراغب ميتة فانية، عبادة الزاهد متصلة على الدوام، و عبادة الراغب منقطعة بلا تمام، عبادة الزاهد في مساجد الحضرة التي أذن الله أن ترفع، و عبادة الراغب في مزابل القذرات التي أذن الله أن توضع، و لذلك قال بعضهم: عبادة الغني كالمصلي على المزبلة، و ما مثل عبادة الزاهد مع قلتها في الحس و كثرتها في المعنى، و عبادة الراغب مع كثرتها في الحس و قلتها في المعنى، إلا كرجلين أهديا للملك، أحداهما أهدى ياقوتة صغيرة قيمتها ستون قنطارا، و الآخر أهدى ستين صندوقا فارغة خاوية، و يغضب عليه لكونه استهزأ بالملك حيث أهدى له خشبا خاويا شهرتها أعظم من منفعتها.

و سمعت شيخنا رضي الله عنه يقول: الراغب في الدنيا غافل و لو كان يقول على الدوام بلسانه: الله الله، إذ لا عبرة باللسان، و الزاهد في الدنيا ذاكر على الدوام، و لو قل ذكره باللسان.

قلــت: و بهذا فسر بعضهم قوله تعالى: " و لا يذكرون الله إلا قليلا" أي مع الغفلة و الرغبة و لو كثر في الحس.

و قال سيدنا علي كرم الله وجهه: كونوا لقبول العمل أشد منكم اهتماما للعمل، فإنه لم يقل عمل مع التقوى، و كيف يقل عمل يتقبل، و قال ابن مسعود رضي الله عنه: ركعتان من زاهد عالم خير و أحب عند الله من عبادة المتعبدين المجتهدين إلى آخر الدهر أبدا سرمدا، و قال بعض السلف: لم يفتكم أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم بكثرة صلاة و لا صيام، إلا أنهم كانوا أزهد في الدنيا.

و في بعض الأخبار أن سيدنا عيسى عليه السلام مر برجل نائم، و الناس يتعبدون، فقال له عيسى عليه السلام: قم لتتعبد مع الناس، فقال تعبدت يا روح الله، قال و ما عبادتك، قال: تركت الدنيا لأهلها، فقال: نعم العبادة هته أو كما قال عليه السلام، و قال رجل لأبي الحسن رضي الله عنه: ما لي أرى الناس يعظمونك، و لم أر لك كبير عمل، فقال: بسنة واحدة افترضها الله على رسوله، تمسكت بها، فقال له و ما هي قال: الإعراض عنكم و عن دنياكم.

قال الشيخ رزوق رضي الله عنه: و إنما كانت للزهاد هذه الفضيلة لثلاثة أوجه:

أولها: ما فيه من فراغ القلب من الشواغل و الشواغب.

الثاني: لأنه شاهد بوجود الصدق في المحبة، إذ الدنيا محبوبة لا تترك بما هو أحب، قال عليه السلام: الصدقة برهان، قيل على حب العبد ربه.

الثالث: لأنه دليل على المعرفة بالله و الثقة به، لأن بذل الموجود في الثقة بالمعبود، و منع الموجود من سوء الظن بالمعبود.

 

حسن الظاهر من حسن الباطن

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire