شعاع البصيرة يشهدك قربه منك، و عين البصيرة تشهدك عدمك لوجوده، و حق البصيرة يشهدك وجوده، لا عدمك و لا وجودك.
البصيرة ناظر القالب، كما أن البصر ناظر القلب، فالبصيرة ترى المعاني اللطيفة النورانية، و البصر يرى المحسوسات الكثيفة الظلمانية الوهمية، ثم البصيرة باعتبار إدراك نور المعاني اللطيفة على ثلاثة أقسام:
1) قسم فسد ناظرها فعميت، و أنكرت نور الحق من أصله، قال سيدي البصيري:
قد تنكر العين ضوء شمس من رمد |
و ينكر الفم طعم الماء من سقم |
و هذه بصيرة الكفار، قال تعالى: (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) الحج/46 .
2) قسم صح ناظرها، و قوي شيئا ما حتى قرب من أن تفتح عينيه، لكن لشدة الشعاع لم يطق أن يفتح عينيه، فأدرك شعاع النور قريبا منه، و هو لعامة المتوجهين، و يسمى هذا المقام شعاع البصيرة.
و قسم قوي ناظرها ففتح عين بصيرته، فأدرك النور محيطا به حتى غاب عن نفسه بمشاهدة النور، و هذا لخاصة المتوجهين، و يسمى هذا المقام عيــن البصيرة.
3) و قسم صحت بصيرته و اشتد نورها، فاتصل نورها بنور أصلها، فلم تر إلا النور الأصلي، و انكدرت أن يكون شيء زائد على نور الأصل، كان الله و لا شيء معه، و هو الآن على ما عليه كان، و يسمى هذا حق البصيرة..
و وجه التسمية بشعاع البصيرة، لأن صاحبها عندما كان يرى وجود الأكوان انطبعت في مرآة بصيرته، فحجبته عن شهود النور من أصله، لكن لما رقت كثافتها و تنورت دلائلها رأى شعاع النور من ورائها قريبا منه، فأدرك الشعاع، و لم يدرك النور، و هذا هو نور الإيمان و هو مقام علم اليقين .
و وجه تسمية عين البصيرة، أن البصيرة لما صحت و قويت، انفتحت عينها، فرأت النور محيطا و متصلا بها، فسميت عين البصيرة لانفتاحها و إدراكها ما خفي على غيرها، و هذا مقام عين اليقين .
و وجه تسمية حق البصيرة، أن البصيرة لما أدركت الحق من أصله، و غابت عن نور الفروع بنور الأصول، سميت حق البصيرة لما أدركته من الحق، و غابت عن شهود الخلق، و هذا مقام حق اليقين،
فشعاع البصيرة هو نور الإيمان لأهل المراقبة، و عين البصيرة هو نور الإحسان لأهل المشاهدة و حق البصيرة هو نور الرسوخ و التمكين لأهل المكالمة، أو تقول: شعاع البصيرة، نور علم اليقين، و عين البصيرة هو نور عين اليقين، و حق البصيرة هو نور حق اليقين.
فعلم اليقين لأهل الدليل و البرهان، و عين اليقين لأهل الكشف و البيان، و حق اليقين لأهل الشهود و العيان، مثال ذلك كمن سمع بمكة، و لم يرها، فيكون له علم اليقين بها، فإذا استشرف عليها و رآها و لم يدخلها، صار لها عين اليقين بها، و أما إذا دخلها و تمكن فيها فذلك حق اليقين بها، و كذلك طالب الحق، فما زال من وراء الحجاب فانيا في الأعمال، فهو بذلك يكون في علم اليقين، فإذا استشرف على الفناء في الذات، و لم يتمكن بعد من الفناء فهو في عين اليقين، فإذا رسخ و تمكن فذلك حق اليقين،
أو تقول: شعاع البصيرة لأهل علم الملك، و عين البصيرة لأهل عالم الملكوت، و حق البصيرة لأهل عالم الجبروت..
أو تقول: شعاع البصيرة لأهل الفناء في الأعمال، و عين البصيرة لأهل الفناء في الذات، و حق البصيرة لأهل الفناء في الفناء، فشعاع البصيرة يشهدك قرب الحق منك، أي يوجب لك شهود قرب نور الحق منك ، قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) ق/16 و قال تعالى: ( و هو معكم أينما كنتم ) الحديد4 ، و عين البصيرة يشهدك عدمك أي زوالك، بزوال وهمك، و لوجوده ، أي وجود الحق، إذ محال أن تشهده و تشهد معه سواه، فإذا زال عنك الوهم، و غنيت عن وجودك، شهدت ربك بربك، و هو علامة فتح البصيرة، و علاج السريرة كما قال سيدي عبد الرحمن المجدذوب:
من شاهد الكون بالكـون |
عزه في عمى البصـيرة |
و من شاهد الكون بالمكون |
صادف علاج السريرة |
فظاهره أن عامة المسلمين عميت بصيرتهم، و التحقيق هو ما تقدم من التفصيل، و أنها مسدودة فقط مع صحة ناظرها، بخلاف بصيرة الكفار فإنها عمياء، و أما حق البصيرة فيشهدك وجود الحق وحده، لا وجودك، لأنك مفقود من أصلك، و لا عدمك، إذ لا يعدم إلا ما ثبت له وجود، و لم يكن مع الله موجود، كان الله و لا شيء معه، و هو الآن على ما عليه كان، و هذه الزيادة و إن لم تكن في الحديث لكن معناها صحيح، إذ التغير عليه تعالى محال، قال محيي الدين ابن العربي الحاتمي رضي الله عنه: من شهد الخلق لا فعل لهم، فقد فاز، و من شهدهم لا حياة لهم فقد جاز، و من شهدهم عين العدم فقد وصل.
قلــت، و من شهدهم بعين العدم فقد تمكن وصاله، و أنشدوا:
من أبصر الخلق كالسراب |
فقد ترقى عن الحجاب |
إلى وجود تراه رتقــا |
بلا ابتعاد و لا اقتـراب |
فلا خطاب به إليــه |
و لا مشير إلى الخطـاب |
0 Commentaire(s)