شتان بين ما يستدل به و ما يستدل عليه، و المستدل به عرف الحق لأهله فأثبت الأمر من وجود أصله، و الاستدلال عليه من عدم الوصول إليه، و إلا فمتى غاب حتى يستدل عليه، و متى بعد حتى تكون الآثار هي التي توصل إليه.

شتان بمعنى بعد و افترق، و لا تكون إلا في افتراق المعاني دون الحسيات، قلـــت: إعلم أن الحق سبحانه لما أراد أن يتجلى بأسرار ذاته و أنوار صفاته، أظهر بقدرته قبضة من نوره الأزلي، فاقتضت القدرة ظهور آثارها و شهود أنوارها، و اقتضت الحكمة إسدال حجابها و إظهار أستارها، فلما فرغت القدرة نورها في مظاهر الكون، أسدلت عليها الحكمة رداء الصون، فصارت الأكوان كلها نورا، في حجاب مستور، ثم إن الحق سبحانه قسم الخلق على قسمين و فرقهم فرقتين، قسم اختصه بمحبته و جعلهم من أهل ولايته، ففتح لهم الباب و كشف لهم الحجاب، فأشهدهم أسرار ذاته، و لم يحجبهم عنه بآثار قدرته، و قسم أقامهم لخدمته، و جعلهم من أهل حكمته، أسدل عليهم حجاب الوهم، و غيب عنهم نور العلم و الفهم، فوقفوا مع ظواهر القشور، و لم يشهدوا بواطن النور مع شدة الظهور، فسبحان من أخفى سره بحكمته، و أظهر نوره بقدرته.

فأما أهل المحبة، و هم أهل الولاية و العرفان من أهل الشهود و العيان، فهم يستدلون بالنور على وجود الستور، فلا يرون إلا النور، و بالحق على وجود الخلق، فلا يجدون إلا الحق، و بقدرته على حكمته، فوجدوا قدرته عين حكمته، و حكمته عين قدرته، فغابوا بشهود الحق عن رؤية الحق، إذ محال أن تشهده و تشهد معه سواه.

و أمــا أهل الخدمة من أهل الحكمة، فهم يستدلون بظهور الستور على وجود النور، و بالخلق على وجود الحق، غابوا عنه في حال حضوره، و حجبوا عنه بشدة ظهوره،

قال أحد العارفين: أثبت الله للعامة المخلوق، فأثبتوا به الخالق، و أثبت للخاصة نفسه فأثبتوا به المخلوق اهـ.

فشتان أي فرق كبير بين من يستدل به على ظهور أثره، و بين من يستدل بظهور أثره على وجوده، لأن من يستدل به عرف الحق، و هو الوجود الحقيقي لأهله، أي لمن هو أهل له، و يستحقه و هو الله الواجد الموجود الملك المعبود، و أثبت الأمر و هو القدم للوجود الحقيقي من وجود أصله، و هو الجبروت الأصلي القديم الأزلي، يعني من عرف الله حتى صار عنده ضروريا عرف الوجود إنما هو الله و انتفى عنه وجود ما سواه، و أثبت القدم لأوله و منتهاه.

أو تقول: عرف الحق، و هو الوجود الأصلي لأهله و هو الله تعالى، و أثبت الأمر و هو الوجود الفرعي من وجود أصله، أي ألحقه بأصله، فإذا التحق الفرع بالأصل صار الجميع جبروتيا أصليا، و يحتمل أن يكون معناهما واحد، و يكون التقدير عرف الوجود الحقيقي لأهله، و أثبت ذلك الأمر من أصله، كقولك عرفت هذا الحكم و أصبت من أصله و الله تعالى أعلم .

و أما من يستدل عليه، فلبعده عنه في حال قربه منه، و لغيبته عنه في حال حضوره معه، بعّـده الوهم، و غيبه عدم الفهم، و إلا فمتى غاب حتى يستدل عليه، إذ هو أقرب إليك من حبل الوريد، و متى بعد حتى تكون الآثار الوهمية هي التي توصل إليه، و هو معكم أينما كنتم، إذ أثر القدرة هو عينها، فالصفة لا تفارق الموصوف، إذ لا قيام لها إلا به، و لا ظهور لها إلا منه، و سيأتي له في المناجاة: إلــهي، كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك، أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتى يكون هو المظهر لك، متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك، و متى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك، و الله تعالى أعلم .

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire