لولا ميادين النفوس ما تحقق سير السائرين.

   قلت: الميادين جمع ميدان بكسر الميم و فتحها، و به صدر في القاموس، و هو مجال الخيل، ثم استعير هنا لمحاربة النفوس و مجاهدتها، فهي تارة تكر عليه فتظفر به، و تارة يكر عليها فيظفر بها، و في هذا المعنى قال شيخ شيوخنا المجذوب رضي الله عنه:

سـايس مع النفـس جهـدك          و صبـح و مـس عليــهـــا

لعلهـا تـدخــل بيــدك           و تعود تصــطـاد بهـــــا

   فقد بين رضي الله عنه كيفية مجاهدتها، و علمك الحيلة في أخذها، و ذلك أن تدخل معها شيئا فشيئا، فتعلمها الصمت وحده ثم العزلة، ثم نقدمها للخراب شيئا فشيئا، تقدمها للقليل فإذا استأنست به زدها شيئا آخر، و هكذا، فأحب الأعمال إلى الله أدومها و إن قلّ، و لا يعلمها البطالة، فورده من العمل الذي تموت به لا يتركه.

   و قد كنت في حالة المجاهدة، إذ هممت بترك وردي، نادتني هواتف الأكوان حتى كانت في بعض الأوقات تخاطبني الصبيان يا هذا اليهودي حين نهتم بترك وردي من السؤال، و قد سمعت مرارا متعددا حين نستعمل خرابا زد على يدك، و تارة يقول: زد صف سبيكتك، و تارة نسمع: يا عساس حين يسرقني شيء من الحس، و هكذا، و كانت مجاهدتي لنفسي كلها سياسة، لم أحملها من المرة الأولى إلا ما تطيقه حتى تستأنس به، ثم نزيدها، حتى كنت نفعل بها ما نشاء.

   قال بعض العارفين: انتهى سير الطالبين إلى الظفر بنفوسهم، فإن ظفروا بها وصلوا، و ما ذكرته من السياسة للنفس و الاحتيال عليها هو الصواب قال في المباحث:

و احتل على النفس قـرب حيلــة          انفـع في النصـر من قبيلــــه

   و أما إن حملها في أول مرة ما لا تطيقه، فإنها تسقط و تمل، و ربما ترجع بالكلية، قال صلى الله عليه و سلم:" اكلفوا من العمل ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا" و قال: " لا يكن أحدكم كالمنبت لا أرض قطع و لا ظهر أبقى" و المنبت هو المنقطع.

   و حاصل ما ذكره الشيخ في هذه الحكمة أن الناس على قسمين، قسم لا سير لهم، إذ لا توجه لهم إلى الله، فهم واقفون مع ظاهر الشريعة، كلما أباحته الشريعة أخذوه كان ثقيلا على النفس أو خفيفا، بل لا يأخذون إلا الخفيف، لأنهم يقصدون رخص الشريعة و تسهيلها مما يوافق هواهم، فلم يغيروا من عوائدهم و شهواتهم شيئا، فعزهم وافر و جاههم باق و دنياهم في الزيادة، و هؤلاء عوام المسلمين.

   و قسم شاقت نفوسهم إلى حضرة الملك، و غلبهم الشوق فتوجهوا إلى حضرته، و اشتغلوا بمجاهدة نفوسهم و محاسبتها، فكل ما يثقل عليها أدخلوها فيه، و هي تموت، و كل ما يخفف عليها جنبوها منه و هي تبكي، هكذا يدومون عليها حتى ترتاض و تلين، و حينئد تطاوعهم فيما يريدون.

   فأول ما يجاهد المريد في ترك الدنيا، أو التخفيف حتى لا يبقى ما يشغله عن ربه، ثم في ترك الناس و الفرار منهم، يتنكر لمن يعرف، و لا يتعرف لمن لا يعرف، ثم في إسقاط المنزلة و الجاه حتى يسقط من عين الناس و يسقط الناس من عينه، ثم في الذل و الانكسار قلبا و قالبا، بالمشي بالحفا و تعرية الرأس و غير ذلك، فإذا تحققت بالذل و التواضع و الخمول و الفقر و سكنت في ذلك و استحلته، فقد نمكن منها و ملكها، بل ملك الكون كله.

و نفسك نحوي بالحقيقـة كلهـا           أشـرت بجـد القول ما أنـا خـادع

   فكل من ملك نفسه، فقد ملك الوجود بأسره، فلولا مجاهدة النفوس و محاربتها في هذه الميادين، ما تحقق سير السائرين، إذ لا يتحقق السائر من القاعدة إلا بمخالفة الهوى و خرق العوائد، فمن خرق عوائد نفسه حتى استوى عنده العز و الذل و الفقر و الغنى، و غير ذلك من مكروهات النفوس، فقد تحقق سيره و وصوله، و من لم يقدر على تغيير شعرة من نفسه، فلا سير له، و لا وصــول.

   قال أبو عثمان الحيري: لا يكمل الرجل حتى يستوي قلبه في أربعة أشياء، في المنع و العطاء، و العز و الذل، يعني يكون عنده الذل كالعز و المنع كالعطاء لا ينقص منها.

   و قال محمد بن خفيف رضي الله عنه: قدم علينا بعض أصحابنا فاعتل و كان به علة البطن، فكنت أخدمه و آخذ منه الطست طول الليل، قال فغفوت مرة، فقال لي: نمت لعنك الله، فقيل له: كيف وجدت نفسك عند قوله: لعنك الله، قال: كقوله رحمك الله، و حكي عن إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه أنه قال/ ما سررت في الإسلام إلا ثلاث مرات معدودات، كنت في مركب يوما، و كان به رجل يحكي الحكايات فيضحك منه الناس و كان يقول: رأيت يوما في معركة الترك علجا و يقول: هكذا، و كان يأخذ بلحيتي و يمد يده في حلقي، و الناس يضحكون منه، و لم يكن في ذلك المركب عنده أحد أحقر مني و لا أصغر، فسررت بذلك، و يوما آخر كنت جالسا فجاء إنسان فصفعني، و يوما آخر كنت جالسا فجاء إنسان و بال علي و قال: بعضهم حقيقة زوال الهوى من القلب حب لقاء الله في كل نفس من غير اختيار حالة يكون عليها، فإذا وجد المريد هذه العلامات في نفسه فقد خرج من عالم جنسه، و وصل إلى حضرة قدسه، و كان كما قال الشاعر:

لـك الدهـر طوعا و الأنـام عبيــد         فعـش كل يوم مـن أيـامك عيـد

   و كما قال سيدي أبو العباس بن العريف رضي الله عنه في هذا المعنى:

            بدا لـك سر طـال عنـك اكتتـامـه        و لاح صباح كنـت أنت ظلامــه

            فأنت حجاب القلب عن سر  غيبـــه         و لولاك لـم يطبع عليـه ختامــه

            فإن غبت عنـه حــل فيـه و طنـت         على مركب الكشف المصون خيامـه

             و جاء حديـث لا يمــل سمـاعــه         شهى إلينا نثره و نظــامــــه

              إذا سمعته النفس طــاب نعيمهـــا          و زال عن القلب المعنـى غرامــه

 

   فإن لم يجد المريد هذه العلامات، فليستمر على سيره، و لا يمل و لا يفتر، فمن عرف ما قصد هان عليه ما ترك، و هذا الكلام إنما هو لمن أسعده الله، فوصل إلى شيخ التربية، و أما من لم يصل إليه، فلا يطمع في السير أبدا، و لو جمع العلوم كلها، و صحب الطوائف كلها، و هذا أمر ذوقي، لا أقلد فيه أحدا، فقد صلينا كثيرا و صمنا كثيرا، و اعتزلنا كثيرا، و ذكرنا كثيرا، و قرأنا القرآن كثيرا، و الله ما عرفنا قلوبنا و لا عرفنا حلاوة المعاني حتى صحبنا الرجال أهل المعاني، فأخرجونا من التعب إلى الراحة و من التخليط إلى الصفا و من الإنكار إلى المعرفة.

   قلت: لم يقصد الحضرمي انقطاعها على الأبد، و حاشا للحضرمي أن يتحكم على الله، و يعجز قدرة الله، و إنما أراد في زمانه مدعين كثيرين، فحذر أهل زمانه منهم، و معرفة الحضرمي و زروق تنافي هذا القصد، و على تقدير صدورها منهما فليسا بمعصومين.

   فكل كلام يرد و يقبل إلا كلام صاحب الرسالة صلى الله عليه و سلم، و قد بعد الحضرمي رجال كانوا من أهل التربية النبوية بالحال و المقال و الهمة لا يمكن عدهم، و هم موجودون في زماننا هذا، مشهورون كنار على علم، قد هدى الله على أيديهم خلقا كثيرا، و خرج على أيديهم من الأولياء ما لا يعلمهم إلا من منّ عليهم بمعرفتهم.

      قال في لطائف المنن، إنما يكون الاقتداء بولي دلك على الله، و أطلعك على ما أودعه من الخصوصية لديه، فطوى عنك شهود بشريتك و عرفك وجود خصوصيتك، و ألقيت إليه القياد، فدلك به على سبيل الرشاد، يعرفك برعونات نفسك و دفائنها، و كمائنها و دقائقها، و يدلك على الجمع على الله، و يعلمك الفرار مما سوى الله، و يسايرك في طريقك حتى تصل إلى الله، يوقفك على إساءة نفسك و يعرفك بإحسان الله إليك، فتفيدك معرفة إساءة نفسك الهرب منها، و عدم الركون إليها، و يفيدك العلم بإحسان الله إليك الإقبال عليه و القيام بالشكر إليه، و القيام على ممر الساعات بين يديه، قال، فإن قلت: فأين من هذا وصفه، لقد دللتني على أغرب من عنقاء مغرب، فاعلم أنه لا يعوزك وجدان الدالين، و إنما يعوزك وجدان الصدق في طلبهم، جد صدقا تجد مرشدا، و تجد ذلك في كتاب الله تعالى:( أمن يجيب المضطر إذا دعاه).

   و قال: فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم، فلو اضطررت إلى من يوصلك إلى الله اضطرار الضمآن إلى الماء و الخائف إلى الأمان، لوجدت ذلك أقرب إليك من طلبك، و لو اضطررت إلى الله اضطرار الأم لولدها إذا فقدته لوجدت الحق منك قريبا و لك مجيبا، و لوجدت الوصول غير متعذر عليك و لتوجه الحق بتيسير ذلك عليك/.

   قال الشيخ ابن عباد رضي الله عنه: و في كلامه تنبيه أن الشيخ: مِن منح الله و هداياه للعبد المريد إذا صدق في إرادته، و بذل جهده في مناصحة مولاه لا على ما يزعمه من لا علم عنده من كونه لا يشترط، ثم قال: و عند ذلك يوفقه الله تعالى لاستعمال الأدب معه لما أشهده من على مرتبته و رفيع درجته/.

   و قال أيضا في لطائف المنن: و ليس شيخك من سمعت منه إنما شيخك من أخذت عنه، و ليس شيخك من واجهتك عبارته إنما شيخك من سرت فيك إشارته، و ليس شيخك من دعاك إلى الباب، إنما شيخك من رفع بينك و بينه الحجاب، و ليس شيخك من واجهك مقاله إنما شيخك من نهض بك حاله، شيخك هو الذي أخرجك من سجن الهوى و دخل بك على المولى، شيخك هو الذي لا زال يجلو مرآة قلبك حتى تجلت فيه أنوار ربك، نهض بك إلى الله فنهضت إليه، و صار بك حتى وصلت إليه، و لا زال محاذيا لك حتى ألقاك بين يديه، فزج بك في نور الحضرة و قال ها أنت وربك/.

    السير هو قطع العلائق و العوائق

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire