وصولك إلى الله، وصولك إلى العلم به، و إلا فجل ربنا أن يتصل به بشيء أو يتصل هو بشيء.

   قلت: قد ذكر أهل الفن في هذا المقام اصطلاحات و ألفاظ تداولونها بينهم تقريبا لفهم المعاني، فمنها السير و الرحيل، و ذكر المنازل و المناهل و المقامات، و منها الرجوع و الوقوف، و كل ذلك عن مجاهدة النفوس و محاربتها، و قطع العوائق و العلائق عنها، أو الوقوف مع شيء منها، و سيأتي للمؤلف لولا ميادين النفوس ما تحقق سير السائرين.

   و منها الوصول و التمكين و السكون و الطمأنينة، و مناه المشاهدة و المكالمة و المجالسة و المساررة، و غير ذلك، و كل ذلك كناية عما أدركته أرواحهم، و ذاقته أسرارهم من عظمة الحق و جلاله، و سيأتي تفسير شيء من ذلك في محله إن شاء الله، و معنى الوصول عندهم تحقيق العلم بوجوده وحده.

   فوصولك إليه هو شعورك بعدمك، حتى يكون عدمك عندك ضروريا، و علمك بوجوده كذلك، و هذا الأمر كان حاصلا لك في نفس الأمر، لكن لم تشعر به، و في هذا المعنى قال بعضهم، و بعضه للششتري:

بيــن طــلوع و نـزول           تخبلـــت   الــغـــــزول

أفـن   مـن لم  يكــــن           يبـق   مــــن لـم يــــزل

جــول  كـي  تـــزول           أو  امــش   نـزع   الفحـــول

   فالزوال هو المعرفـة، و هو معنـى الوصول، و سببها جولان الفكرة، و لذلك أمره بها.

   و قال شيخ شيوخنا سيدي علي: الناس كلهم يشاهدون و لا يعرفون، و سمعت شيخنا يقول: الناس كلهم في البحر، أي في بحر الوحدة، و لكن لا يشعرون، فوصول العبد إلى الله هو تحقيق العلم بوجوده و الغيبة عن نفسه و عن كل ما سواه، و إلا تكون كذلك بأن تعتقد أن الوصول يكون حسيا، فجل ربنا، أي تعالى و ترفع، أن يتصل به شيء للزوم تحيزه، أو يتصل هو بشيء للزوم افتقاره و حصره، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

   و اعلم أن هذا العلم بالله يكون كسبيا، ثم لا يزال يغيب عن نفسه و حسه سكرة بعد سكرة، و حيرة بعد حيرة، حتى يصحو و ينجلي عنه ضباب الحس، و سحاب الجهل، و ظلمة النفس، فتشق عليه شمس النهار و تنجلي عنه ظلمة الأغيار و في ذلك قيل:

ليلـي بوجهــك مشــرق          و ظـلامـه في النـاس ســار

النـاس فـي سـدف الظـلام         و نحـن فـي ضـوء النهـــار

   أي ليل وجودي صار مشرقا مضيئا بسبب شهود ذاتك، و ظلال ليل القطيعة سار في جل الناس، الناس في ظلمة جوف الأكوان و نحن في ضوء شموس العرفان، ثم لا يزال في تربية الشيخ و تحت حضانته، و مدده سار إليه بقدر صدقه حتى يسلم له خصيم العرق الظلماني، و ينفرد النواراني و يحس ذلك من نفسه، فحينئذ يقول بلسان الحال: أقر الخصم فارتفع النزاع، فإذا انفرد الخصم النوراني استمد من كل شيء، و شرب من كل شيء، و أخذ النصيب من كل شيء، فيبقى وصوله إلى الواسطة شكرا و إحسانا، أن اشكر لي و لواديك، و ينشد حينئذ بلسان حاله و مآله:

  الحمد لله لا تفنـى محـامــده         و الحمد لله فـي الآصال و البكــر

من يهـده الله أضحى عالما فطنـا         بالله في كل ما يبدو من الصـــور

 يا طالب الوصل جد بالنفس ملتفتـا        عنها إلى منـزل الأشياء بـالقـدر

 فعن ظفـرت فأنت الفرد و العلم الــــمنعوت بالحس و الحسنى لذي نظر

 

قربـك منه أن تكون مشاهدا لقربـه

   و منها، أي من اصطلاحاتهم، ذكر القرب و الاستشراف، و المراقبة، و فسر الشيخ معنى القرب فقال:

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire