من استغرب أن ينقذه الله من شهوته أو يخرجه من وجود غفلته فقد استعجز القدرة الإلهية، و كان الله على كل شيء مقتدرا.

   قلت: لا شك أن الحق تعالى لا يعجره شيء، هو الغالب على أمره، و قلوب عباده بيده يصرفها حيث يشاء و يقلبها كيف يشاء، فمن كان منهمكا في الغفلة مستغرقا في بحار الشهوة، فلا يستغرب أن ينقذه الله من غفلته، و أن يخرجه من وجود شهوته، فإن ذلك قدح في إيمانه، و كيف يستغرب ذلك و ربنا سبحانه و تعالى يقول:( و كان الله على كل شيء مقتدرا) الكهف45، و أنت من ذلك الشيء، و قال تعالى في حق العصاة: ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعا)الزمر 53، و قال تعالى:( فمن تاب من بعد ظلمه و أصلح فإن الله يتوب عليه) المائدة39، إلىغير ذلك من الآيات، و قال صلى الله عليه و سلم:" لو أذنبتم حتى تبلغ خطاياكم عنان السماء ثم تبتم لتاب الله عليكم".

   و ليتذكر من تقدم قلبه من أهل الغفلة و العصيان، ثم صار من أهل المشاهدة و العيان، كانوا لصوصا فصاروا خصوصا، كإبراهيم بن أدهم و الفضيل بن عياض و أبي يعزي، و كثير ممن يتعذر حصره، و قد ذكر القشيري منهم في أول رسالته رجالا قدّمهم أولاً تقوية لرجاء المذنبين، و ليذكر الرجل الذي قتل تسعا و تسعين نفسا ثم سأل راهبا عن التوبة فقال لا توبة لك، فكمل به المائة، ثم سأل عالما فدله على التوبة، و أمره بالذهاب إلى قرية فيها قوم يعبدون الله، فقصدهم فمات بالطريق، فأخذته ملائكة الرحمة، و الحديث في البخاري مطولا.

   و كذلك الرجل الذي كان لصا فسأل عابدا هل له من توبة، فاستهزأ به و أخذ عرجونا يابسا و قال له: خذ هذا العرجون، فإن اخضر صحت توبتك، فأخذه بالنية و جعل يعبد الله و ينظر إليه، فأصبح ذات يوم معسلجا أخضر.

      قلت: و قد أدركت أقواما كانوا مغرورين في الغفلة و ترك الصلاة، لا يعرفون من الدين المشهور قليلا و لا كثيرا فضلا عن طريق الخصوص، فانقلبوا و صاروا خصوصا عارفين، و قد أدركت أقواما كانوا منهمكين في الذنوب غارقين في المعاصي و ظلم العباد فصاروا من أعظم الصالحين، و قد رأيت نصارى بثغر سبتة حضروا خلف حلقة الذكر فانجذبوا و تبعونا حتى خرجنا الحد الذي بيننا و بينهم، و لو وجدوا سبيلا لأسلموا سريعا، و قد كان بعض إخواننا يقول في شأن نفسه تعجبا من خروجه من غفلته: هذا مدفع النخاس المدبر، من عنده شيء فليخرجه، فلقد رأيته مجذوبا عاريا رأيه حافيا، و هو اليوم من خواص الأولياء، و الغالب إنما يتفق هذا لمن سقط في صحبة العارفين الذين عندهم الإكسير، و هم موجودون في كل أوان، و هذا أمر شهير لا يحتاج إلى دليل، و من شك فليشاهد، فيا عجبا ممن ينكر ضوء الشمس بعد طلوعها و نور القمر بعد ظهوره، و لكن كما قال صاحب البردة:

قـد تنـر العين ضـوء الشمس من رمـد  *****   و ينكـر الفم طعـم الماء مـن سقم

   و من يظلل الله فلم تجد له سبيلا، و أعجب منه من ينكر وجود شيخ التربية، و يقر انقطاع أهل الخصوصية، (فإنها لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور) أعني تعمى عن طريق أهل الخصوص و تبصر طريق أهل العموم، كحال الخفاش يبصر في الظلمة و لا يبصر في النور، فهو عند الناس معذور لفقده ما عند الأقوياء من النور.

   و قد يسلط الله على عباده الانهماك في الشهوات، و يحبسه في سجن الغفلات، ثم يمن عليه بالتوبة و التيقظ من الغفلة، و يدخله مع أحبائه مداخل الحضرة ليعرف قدر ما أظهره الله عليه من المنة كما أبان ذلك فيما يأتــي:

من حكم ورود الظلمة

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire