لا تطلب منه أن يخرجك من حالة ليستعملك فيما سواها، فلو أراد لاستعملك بغير إخراج.

من آداب العارف الاكتفاء بعلم الله، و الاستغناء به عما سواه، فإذا أقامه الله تعالى في حالة من الأحوال فلا يستحقرها، و يطلب الخروج منها إلى حالة أخرى، فلو أراد الحق تعالى أن يخرجه من تلك الحالة و يستعمله فيما سواها لاستعمله من غير أن يطلب منه أن يخرجه، بل يمكث على ما أقامه فيه الحق تعالى، حتى يكون هو الذي يتولى إخراجه كما تولى إدخاله، و قل : رب أدخلني مدخل صدق و أخرجني مخرج صدق، فالمدخل الصدق هو أن تدخل فيه بالله، و المخرج الصدق هو أن تخرج منه بالله، و هذا هو الفهم عن الله، و هو من علامة تحقق المعرفة بالله..

فالعارف بالله إن كان أعزب لا يتمنى الزواج، و إذا كان متزوجا لا يتمنى الفراق، و إذا كان فقيرا لا يتمنى الغنى و إذا كان غنيا لا يتمنى الفقر، و إذا كان صحيحا لا يتمنى المرض، و إذا كان مريضا لا يتمنى الصحة، و إن كان عزيزا لا يتمنى الذل و إن كان ذليلا لا يتمنى العز، و إن كان مقبوضا لا يتمنى البسط و إن كان مبسوطا لا يتمنى القبض، و إن كان قويا لا يتمنى الضعف و إن كان ضعيفا لا يتمنى القوة، و إن كان مقيما لا يتمنى السفر و إن كان مسافرا لا يتمنى الإقامة، و هكذا باقي الأحوال ينظر ما يفعل الله به، و لا ينظر ما يفعل بنفسه، لتحقق زواله، بل يكون كالميت بين الغسال، أو كالقلم بين الأصابع، كما قال صاحب العينية رضي الله عنه:

أراني كالآلات و هو محركــي

أنا قلم و الأقدار أصابــــع

و قال تعالى: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) القصص/68، و قال تعالى: (وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) الإنسان/ 30، و أوحى الله إلى سيدنا داوود عليه السلام فقال: يا داوود، تريد و أريد و لا يكون إلا ما أريد، فإن سلمت لي ما أريد أتيتك بما تريد، و إن لم تسلم لي ما أريد، أتعبتك فيما تريد و لا يكون إلا ما أريد، و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لأبي هريرة: " جف القلم بما أنت لاق " و في حديث آخر: " جفت الأقلام و طويت الصحف " و قال شيخ شيوخنا سيدي أحمد اليماني رضي الله عنه حين سأله أصحابه عن حقيقة الولاية فقال: حقيقة الولاية هو إذا كان صاحبها جالس في الظل لا يشتهي الجلوس في الشمس و إذا جالسا في الشمس لا يشتهي الجلوس في الظل ..

و هذا كله مع الاختيار دون الأمر الضروري، و قد تقدم قول شيخ شيوخنا سيدي علي رضي الله عنه: من أوصاف الولي الكامل ألا يكون محتاجا إلا على الحال الذي يقيمه مولاه فيه في الوقت، يعني ما له مراد إلا ما يبرز من عنصر القدرة ، لا تشتهي نفسه غيره .

قلـــت: فإذا تجلى في العارف شيء من هذه الأمور، أعني الانتقال من حال إلى حال، فليتأن و ليصبر حتى يفهم أنه من الله بإشارة ظاهرة أو باطنة، أو هاتف حسي أو معنوي، و لينصت إلى الهواتف، فإن الله تعالى يخاطبه بما يفعل، و هذا أمر مجرب صحيح عند العارفين، حتى أنهم لا يتصرفون إلا بإذن من الله و رسوله، إذ لا فرق بين أهل الجمع جعلنا الله منهم آمين، و هذا كله إذا كان الحال الذي هو فيه موافقا للشريعة، و إلا فليطلب الخروج منه بما يمكن..

الأدب الرابع: الاستدلال به على كل شيء

 

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire