قيد الطاعات بأعيان الأوقات كي لا يمنعك عنها وجود التسويف، و وسع عليك الأوقات كي لا تبقى لك حصة الاختيار.
قلت: من شأن النفس تسويف العمل و تطويل الأمل، فلو تركت مع اختيارها ما توجهت قط إلى ربها، و لما علم الحق سبحانه أن من عباده من لا تنهضه المحبة و لا يسوقه إليه مجرد الرغبة، و إنما تسوقه إليه سلاسل الامتحان بتخويف النيران، أو شبكة الطمع بنعيم الجنان، أوعد من حاد عن طاعته بالعذاب الأليم، و وعد من أطاعه و تقرب إليه بالنعيم المقيم، ثم فرض عليه ما تظهر فيه طاعته من الأحكام و الفرائض، و عين لها أوقاتا مخصوصة، إذ لو ترك ذلك لاختيار عباده ما أقبل عليه بها إلا القليل من أهل محبته و وداده، و من رحمته تعالى أن وسع عليهم في تلك الأوقات، فيبقي لهم في ذلك ضرب من الاختيار، فوسع الظهر مثلا إلى العصر، و العصر إلى الاصفرار، و المغرب إلى العشاء، و العشاء إلى نصف الليل، و الصبح إلى قرب الطلوع.
فقد قيد لك أيها العبد الطاعات التي أوجبها عليك بأعيان الأوقات لئلا يمنعك التسويف من فعلها، فيؤدي ذلك بك إلى تركها و وسع عليك الوقت ليبقى لك حصة الاختيار، أي ضربا و نصيبا من الاختيار، إذ لو ضيق عليك الوقت لكان ذلك في غاية الحرج و الاضطرار، فالحمد لله على منته و سعة رحمته.
و قد قيل: إن الله سبحانه و تعالى يقول لعبده: ألم أخرجك من العدم إلى الوجود، و أمده بإمداد الفضل و الجود، جعلت لك نورا في بصرك لتدرك به أدلة قدرتي و عظيم آياتي، و جعلت لك نورا في بصيرتك لتفهم به خطابي، و تتقي بالطاعة عذابي و ترجو ثوابي، فوعدتك الثواب على الطاعة، و وعدتك العقاب على المخالفة، ثم كلفتك من العمل ما تطيق، و وسعت عليك في الأوقات كل ضيق، فلو انك قضيت ما أوجبت عليك في أول عمرك أو في آخره لقبلته منك، فمن الذي منعك من الامتثال، و لم يكن بك عذر غير الغواية و الضلال/.
و قد قيل في المثل: من طلب جاب و من هاب خاب، و انظر، فقد قَرَنَ الله الهداية بالمجاهدة، و أوجب سبحانه على نفسه ما لم يجب عليه، فقال تعالى و هو أصدق القائلين:( و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا و إن الله لمع المحسنين) العنكبوت69، و أنشدوا في هذا المعنــى:
لو صـح منك الهـوى أرشدت للجبـل و الصدق سيـف ينيـل غايـة الأمـل
فكـن أخـا همـة تسمـو بصاحبهـا و لا تكـن بالتوانـي محبــط العمـل
و كان الربيع بن خيثم يردد هذه الآية و يبكي قوله تعالى:( أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا و عملوا الصالحات) الجاثية21، و كان يصيح ليت شعري من أي الفريقين أنت يا نفسي، و هذه الآية تسمى مبكية العابدين، و قال سهل رضي الله عنه في معنى هذه الآية: ليس أهل الموافقة كأهل المخالفة، أهل الموافقة في مقعد صدق عند مليك مقتدر، و أهل المخالفة في عذاب السعير/.
و لما ذكر حكمة توفيق الطاعة ذكر حكمة إيجابها على العباد فقــال:
0 Commentaire(s)