لا تمدن يدك إلى الأخذ من الخلائق إلا أن ترى أن المعطي فيهم مولاك، فإن كنت كذلك فخذ ما يوافق العلم.
قلت: مد اليد إلى الأخذ من الخلائق على قسمين، إما أن يكون من غير سؤال أو بعد سؤال، و لكل واحد منهما أحكام.
أما الأخذ من غير سؤال، فشرطه أمران، أحدها علمي و الآخر صوفي، أما العلمي فلا يأخذ ممن كان كسبه حرام و لا مخلط و لا محجور عليه كالصبي و المجنون و العبد، و أما الصوفي فلا يقبض حتى يعرف ممن يقبض علما و حالا، فإن اتسعت معرفته و تحقق فناؤه بحيث لم يبق له نظر للواسطة أصلا، فربما يسلم له القبض مطلقا، لأنه يقبض من الله و يدفع بالله، و لكن الكمال هو الجمع بين الحقيقة و الشريعة، و قد كان من الصوفية المحققين يقبضون جوائز السلطان ثم يدفعونها على أيديهم.
و أما القبض بعد السؤال، فالكلام عليه من وجهين، الأول من جواز السؤال و منعه، و الثاني فيما يقبضه بعد أخذه، أما حكم السؤال فأصله الجواز، قال تعالى:( و أما السائل فلا تنهر)، فلو كان ممنوعا ما نهى الله عن نهره، ثم تعتريه الأقسام الخمسة، فيكون واجبا، و مندوبا، و مباحا، و مكروها، و حراما.
فأما الواجب، فما يكون لسد الرمق بحيث إذا ترك السؤال مات، فهذا واجب عليه، فلو تركه حتى مات، مات عاصيا، فأوجبه الشارع خوفا على فوات حياة البشرية الحسية، و أوجبته الصوفية أيضا على من خاف فوات حياة الروحانية، بحيث منعته الرياسة من حظ رأسه و ذبح نفسه، فقد نقل القسطلاني في شرح البخاري عن ابن عربي المعافري أنه قال: هو واجب على المريد في البداية، فتحصل أنه واجب حيث يخاف فوات حياة البشرية أو الروحانية، و إليه أشار ابن البنا بقوله:
و مــا علـى السائـل مـن تأويــل ***** لأجــل قهــر النفــس و التذليـــل
فمـن أولــى الأذواق و الأحـــوال ***** مــن كـان راض النفــس بالســؤال
قالــوا و لا خيــر إذن فـي العبــد ***** مــا لـم يكــن قـد ذاق طعــم الرد
و بالجملة فهو لرياضة النفس واجب أو مندوب، و كان إبراهيم الخواص تعرض عليه الألوف فلا يقبلها، و ربما سأل من يعرف من الناس الدرهم و الدرهمين لا يزيد على ذلك.
و أما المندوب فهو أن يسأل لغيره، فهو من التعاون على البر، فيسأل الطعام ليطعمه من يستحيي، أو يسأل اللباس أو غير ذلك، و قد سأل النبي صلى الله عليه و سلم لأصحابه حين قدموا إليه عراة، و يدخل في المندوب ما كان لرياضة النفوس حيث لم يخف عليهم كما تقدم.
و أما المكروه، فهو أن يسأل لقوت البشرية مع القدرة على الاستغناء عنه بسبب من الأسباب، و هذا ما لم ينقطع للعبادة و يتجرد إلى الذكر، و أما المنقطع إلى الله فلا بأس به، و قد فعله كثير من العارفين المحققين، فقد كان أبو جعفر الحداد، و هو شيخ الجنيد يسأل بابا أو بابين أو ثلاثة بين العشاءين، فكانت العامة تتعجب منه أولا، ثم عرف بذلك، فكان لا يعيبه عليه العامة و لا الخاصة مع جلالة قدره و علو معرفته بربه، و كان الشيخ أبو سعيد الخراز إذا اشتدت به الفاقة يمد يده و يقول: من عنده شيء لله، و كان إبراهيم بن أدهم معتكفا بجامع البصرة، و لا يفطر إلا من ثلاثة أيام إلى ثلاثة أيام، يخرج بعد صلاة المغرب يطلب على الله فطره، و كان سفيان الثوري رضي الله عنه يسأل الطعام لله، فإن فتح بكثير أخذ كفايته و ترك الآخر، و أكثر الرجال على هذه الحال، قطعوا الدنيا الفانية لتأثيرهم الأخرى الباقية، و كل ذلك لا يقدح بشريعة و لا حقيقة، و لا يطفئ نور المعرفة، و قد أشار ابن البنا إلى هذين القسمين أعني المندوب و المكروه بقوله:
و كرهــوا سـؤالــه لنفســـه ***** ثـم أباحـــوه لأجــل جنســـه
و لــم يعـــدّوه مـن الســؤال ***** لكــن مـن العــون علـى الأعمـال
إذ كــان خيـر الخلـق فـي أترابـه ***** يســأل أحيانــا إلـى أصحـابـــه
و أما المباح، فهو أن يسأل لحاجته الغير الضرورية، كسؤاله لقضاء دينه، أو ما يزيد على ستر عورته و سد رمقه أو غير ذلك مما ليس بضرورة، لكنه حاجي، أي محتاج إليه.
و أما المحرم، فهو أن يسأل تكثرا أو زيادة على ما يكفيه، و في الحديث ممن له أربعون درهما فالسؤال عليه حرام، و فيه ورد في الحديث أنه يبعث يوم القيامة و ليس في وجهه مزعة لحم، و من المحرم أيضا ما فيه إلحاح و إضرار بالمسؤولين قال تعالى:( لا يسألون الناس إلحافا).
قلت: و أما ما يفعله أصحابنا من صورة الإلحاح بنا، فإنما قصدهم بذلك قتل نفوسهم بما يسمعون من المسؤول في جانبهم، و لا يفعلونه إلا من يعرف عندهم بالإنكار، فيستخرجون منه الجلال اختبارا لأنفسهم، و قد يقصدون بذلك تحقيق الإخلاص و ستراً للحال، فيظهرون الرغبة و هم من أزهد الناس تحقيقا للاكتفاء بعلم الله، و ما كان ذلك إلا في حال قوتهم و جذبهم، فالسكر غالب عليهم، هذا ما حققته منهم، و قد انقطع ذلك كله اليوم، فما بقي إلا أهل الصفاء و أهل الوفاء، و سبب دخول السؤال من هذه الطائفة، أن شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل العمراني رضي الله عنه كان له جاه وزارة و رياسة في فاس، فلما دخل في يد الشيخ و رأى صدقه و جدّه قال له: أرى لك خمرة لم يقدر عليها أحد قبلك، و لولا ما رأيت فيك من الصدق و الجد ما دللتك عليها، قال و ما هي يا سيدي، فقال له: السوق للسؤال، هكذا سمعته من بعض الإخوان، و الذي رأيته في كتابه أنه قال له: يا ولدي أراك تطلب هذا العلم، و لا تنال منه ما تريد إلا بالذل، فدخل فيه و سكن إلى مماته، فلما رأى سره و ذاق ما فيه من الأسرار و ما يقطع المريد في سيره من المفاوز و القفار، سير أصحابه عليه و دلهم على استعماله، فكان أصل مشروعيته قتل النفوس و لج حضرة القدوس، إذ ما حجبنا عنها إلا حياة النفوس، و من استعمله لقبض الفلوس نال به الشقاء و البؤس، و ينبغي أن يكون في حال السؤال يده مشيرة إلى الخلق و قلبه معلق بالحق، قال في المباحث:
و آداب الصــوفـي عنـد المسألـة ***** أن يدخــل السـوق إليــه يسـألــه
لسانــه يشيــر نحـو الخلـــق ***** و قلبــــه معلــــق بالحـــــق
و قد ذكر ابن ليون السؤال، و بين أصله و ذكر مسألة الزنبيل، و كيفيته أن يتوضأ الرجل و يصلي ركعتين، و يأخذ الزنبيل، يعني وعاء بيده اليمنى، و يخرج إلى السوق و معه رجل آخر يذكر الله، و يذكر الناس، و الناس يعطونه في ذلك الزنبيل حتى يجمع ما تيسر من الطعام و يصبه بين الفقراء، فيأكلون طعاما حلالا بلا تكلف و لا كلفة، هذا ما تيسر لنا في حكم السؤال، و الذي يظهر لنا أن تركه اليوم أحسن من استعماله إذ زالت هيبته، و صار حرفة من الحرف، فصارت نفوس كثيرة من الفقراء تبطش إليه، و ما ذلك إلا لما فيه من الحظ عندها، و الله تعالى أعلم.
و أما ما يأخذه من السؤال، فإن كان فقيرا إليه أخذه، و إن كان غنيا عنه تصدق به خفية بالليل مثلا، و كان شيخ شيوخنا رضي الله عنه يقول: كان قصدنا من السؤال قوت الأرواح، فلما خرج منه قوت الأشباح تبارك الله، يعني فيأخذه من اضطر إليه، و بالله التوفيق، و هذه الفكرة التي ذكرها الشيخ هي من أعظم المهمات التي يحتاج إليها أهل التجريد، و ليس مقصوده الكلام على السؤال إنما مقصوده الدلالة على تربية اليقين، و عدم التشوف إلى المخلوقين، فلا يعلق قلبه بالمخلوق، فإن تشوف إليه فينبغي ألا يقبض ما يعطاه، و لا يمد يده إلى الأخذ منه حتى يرى أن المعطي هو الله، و يكون ذلك ذوقا و حالا.
قلـت: و هذا الشرط إنما هو فيما يأخذه بغير سؤال، و أما في حال السؤال فلا يشترط بل يكون علما و مجاهدة، حتى يصير حالا و ذوقا، و أما ما يأخذه بغير سؤال، فلا بد من هذه المعرفة، و قال شيخ شيخنا: لا تشترط هذه المعرفة، بل يكفيه العلم فيها، و هو الأصح ما لم تتشوف نفسه إلى الخلق، فإن تشوفت نفسه فليكفّ عن القبض من الخلق و ليكتف بضمان الملك الحق، قال تعالى:( و ما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها).
قيل لبعضهم: كيف خرجت من الدنيا بعد أن كانت في يدك، قال : نظرت منصفا لنفسي في معنى قوله تعالى:( و ما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها)، فرأيت جميع الخلق من البعوضة إلى الفيل تكفل الله لهم بالرزق، ففوضت أمري إليه و اشتغلت بالعبادة.
و قال عيسى عليه السلام: عجبت لمن يعمل للدنيا و هو يرزق فيها بلا عمل، و لا يعمل فيها للآخرة و هو يرزق فيها بالعمل.
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:" من كان همه الآخرة جعل الله غناه في قلبه و أتته و هي راغمة، و من كان همه الدنيا جعل الله فقره بين عينيه و لم يأته من الدنيا إلا ما قدر له، و أن الرزق ليطلب العبد كما يطلبه"، و كان يحيى بن معاذ يقسم أنه لا تسكن الحكمة قلبا فيه ثلاث خصال، هم رزق و حسد الخلق و حب الجاه.
و كان حبيب العجمى يخدم الحسن البصري، فصنع حبيب طعاما لإفطارهما فإذا بسائل، فأعطاه جميعه، فقال الحسن: يا حبيب، إنك كثير اليقين قليل العلم، فهلا أعطيته النصف و نتقوت بالنصف فقال: يا سيدي ثوابه لك، و أنا أستغفر الله، فلما جن الليل، و إذا بقارع على الباب، فخرج حبيب، فوجد عبدا معه طعام كثير و الشتاء ينزل و الغلام يبكي، فقال له: ما هذا؟ قال: طعام، قال لي سيدي، إن قبله منك الحسن البصري فأنت حر لوجه الله، و قد طال علي الرق، فقال حبيب: لا إله إلا الله، عتق رقبة و إطعام جائع، ثم دخل به على الحسن، و قال يا سيدي إنك كثير العلم قليل اليقين، فقال: يا حبيب، تقدمناك و سبقتنا/.
قلت: و لشيخ شيوخنا مثل هذه الحكاية ذكرها لي بعض أصحابه، ثم سألته عنها فقال هي صحيحة، و ذلك أن أهله صنعوا طعاما جيدا، فلما وضعوه بين أيديهم، و إذا بسائل يسأل، فأخرجه له الشيخ كله و بقي أولاده بغير عشاء، فلما كان بعد صلاة العشاء، و إذا برجل يدق الباب، فخرج الشيخ، فوجد رجلا معه مائدة فيها ألوان من الطعام، فأدخلها لعياله رضي الله عنه.
و قال بعض الأغنياء: كنت نائما و إذا بإنسان قد وقف علي في المنام و زجرني و قال لي: أجب الملهوف، فانتبهت و أنا مذعور، و لم أدر ما أصنع، فأوقع الله في قلبي أن أخذت صرة فيها مائة دينار، و ركبت دابة و أطلقت زمامها، فخرجت بي من العمران إلى مسجد خرب، و وقفت، فنزلت و دخلت المسجد، فوجدت مسكينا يتضرع إلى الله و يسأله من فضله، فسألته عن حاله، فقال أنا صاحب عيال، و لي بنيات منذ ثلاث ما طعموا، فأنا أسأل الله من فضله، فدفعت له المائة، و قلت له: إذا نفذت فاسأل عني، فأنا فلان و أتني، فقال: و الله ما أسأل غير الله، ثم انصرف، و أنا متعجب من ثقته بالله.
فهذه حكاية جنود من جنود الله تعالى تقوي اليقين، و توجب الثقة برب العالمين، فيستحيي العبد من الله أن يرفع حاجته إليه، فأحرى أن يرفعها إلى غيره كما بين ذلك بقولــه:
0 Commentaire(s)