الزهاد إذا مدحوا انقبضوا لشهودهم الثناء من الخلق، و العارفون إذا مدحوا انبسطوا لشهودهم ذلك من الملك الحق.

   قلـت: أما العباد و الزهاد فلأنهم محجوبون برؤية الخلق عن شهود الحق، فإذا مدحوا شهدوا ذلك من الخلق، و حجبوا عن الجمع بالفرق، و انقبضوا و خافوا على نفوسهم أن تغتر بذلك، أو تقف هناك و هم عاملون على ما تموت به نفوسهم و تحيى به قلوبهم، و لا شك أن المدح لها فيه حظ وافر، فربما تميل إلى ذلك فتعتقد المزية على الغير، فيوجب لها التكبر و الرضى، و هما أصل كل معصية، و أما الذم فلا حظ لها فيه، و إنما هي موتها، و في موتها حياتها، و لذلك إذا مدحوا انقبضوا، و إذا ذموا انبسطوا، و سكت عنه الشيخ، و كأنه يؤخذ بالمفهوم..

و أما العارفون الواصلون، فلأنهم فانون عن أنفسهم باقون بربهم غائبون عن الخلق بشهود الملك الحق، فإذا أثنوا عليهم رأوا ألسنة الخلق أقلام الحق، و شهدوا الجمع في عين الفرق، فرحوا بمدح مولاهم، و انبسطوا عند من تولاهم، فيزدادون له حبا و شوقا، و يفنون فيه شغفا و عشقا، و في مثل هؤلاء ورد الحديث:" إذا مدح المؤمن ربى الإيمان في قلبه ربوة" و إذا ذموا انقبضوا سكونا تحت قهرية الحق، و أدبا مع جلاله، و ليس في هذا الانقباض دليل على كراهية الذم من حيث نسبته للخلق، لأنهم يرون الخلق مصرفين بقدرة الحق، و علامة ذلك، أنهم يسمحون لمن أجرى ذلك عليه، بل يتعطفون عليه، و يتوددون بالمحبة إليه كما قال الشاعــر:

رب رام لـي بـأحجـار الأذى     *****       لـم أجـد بـدا من العطف عليــه

فعسـى يطلــع  الله  علــى     *****      فـرح القـوم فيدنيـنـي إلــيــه

    و في تعبير آخر، الناس في المدح و الذم على أربعة أقســام: عوام، و عباد و زهاد، و مريدون سالكون، و عارفون واصلون..

    فأما العوام، فنفوسهم غالبة عليهم، و دائرة الحس محيطة بهم، محط نظرهم الخلق، غافلون عن طلب الحق، إذا مدحوا و أقبل عليهم الخلق فرحوا، و نظروا لنيل مرادهم و تحصيل أغراضهم، و النفس الأمارة مجبولة على حب الإمارة، و إذا ذموا و أدبر عنهم الخلق انقبضوا و حزنوا لفوات ما أملوا، فهؤلاء قلوبهم خربة من النور..

   و أما العباد و الزهاد، فهم مجتهدون في العبادة، فارون من الخلق، طالبون رضى الحق، مستوحشون من الناس، تحققوا منهم الإياس، فإذا أقبلوا عليهم بالمدح و الثناء انقبضوا و خافوا أن يشغلوهم عما هم فيه، فإذا ذموا و أدبر عنهم الخلق فرحوا و انبسطوا لتفرغهم حينئذ للعبادة، و إقبالهم على ما هم عليه من المجاهدة..

   و أما المريدون السالكون، فهم عالمون على قتل نفوسهم و حياة قلوبهم، فإذا ذموا و أدبر الخلق عنهم فرحوا لما في ذلك من موت نفوسهم و حياة قلوبهم، و في حياة القلوب موت النفوس..

   و أما العارفون فقد ظفروا بنفوسهم و وصلوا إلى شهود معبودهم، فهم يستأنسون بكل شيء، لمعرفتهم في كل شيء، يأخذون النصيب من كل شيء، و يفهمون عن الله في كل شيء، فإذا مدحوا انبسطوا بالله لشهودهم المدح من الله و إلى الله، و لا شيء في الكون سواه، و ليس شيء أحب إليه المدح من الله، كما في الحديث، إذا ذموا انقبضوا تأدبا مع جلال الله، أو شفقة على عباد الله، (من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب)، فصار بسطهم بالله، و قبضهم بالله، و استغنوا به عما سواه، و بهذا المعنى و هو الفناء على النفوس صح مدحهم لأنفسهم تحدثا بما أنعم الله عليهم، كالشيخ عبد القادر الجيلالي رضي الله عنه، و الشاذلي و المرسي و الشيخ زروق، و أشباههم رضي الله عنهم، و ذلك مشهور عندهم نظما ونثرا، و من أجل ذلك أيضا أقروا من مدحهم و أظهروا الانبساط عند مدحهم، و للمؤلف رحمه الله قصائد في مدح شيخه أبي العباس، و كان يقول له أيدك الله بروح القدس، كما كان يقول رسول الله صلى الله عليه و سلم لحسان بن ثابت رضي الله عنه حين كان يمدحه عليه السلام، و مدح الشيوخ من أعظم القربات و أقرب الوسائل إلى الوصول، إذ هم باب الله الأعظم، و يد الله الآخذة بيد الداخلين إلى الحضرة، فمن محدهم فقد مدح الله، إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله، و من ذمهم فقد ذم الله..

   و كذلك مدح رسول الله صلى الله عليه و سلم هو باب عظيم في الوصول إلى حضرة الكريم، فإن قلت قوله عليه السلام:"احثوا التراب في وجه المادحين" فذلك يقتضي العموم، فيصدق بمدح العارفين و غيرهم..

   قلـت: هو محمول على المدح بالكذب على وجه الطمع كما يقع للملوك و أرباب الأموال طمعا فيما عندهم، أو يحمل على من كان باقيا مع نفسه خائفا عليه كالعباد و الزهاد، فإذا مدحهم أحد، فينبغي أن يزجروا و يحثوا في وجهه التراب، قيل: حقيقة، و قيل كناية عن الخيبة و الرد و النهي و الزجر..

   و أما العارفــون المتحققون فقد عرفوا الممدوح و غابوا عن شهود الواسطة في المادح و الممدوح، نفعنا الله بذكرهم و خرطنا في سلكهم آمين..

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire