ما نفع القلب مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة.

النفع إيصال الفائدة، و القلب القوة المستمدة لقبول العلم، و العزلة انفراد القلب بالله، و قد يراد بها الخلوة التي هي انفراد القلب عن الناس، و هو المراد هنا، إذ لا ينفرد القلب في الغالب إلا إذا انفرد القالب، و ميدان، مجال الخيل، استعير هنا للأفكار، إذ ترددها في مواقعها، كتردد الخيل في مجالسها، و الفكرة سير القلب إلى حضرة الرب، و هي على قسمين: فكرة تصديق و إيمان و فكرة شهود و عيان على ما يأتي..

 

قلـــت: لا شيء أنفع للقلب من عزلة مصحوبة بفكرة، لآن العزلة كالحمية و الفكرة كالدواء، فلا ينفع الدواء من غير حمية، و لا فائدة من الحمية بغير دواء، فلا خير في عزلة لا فكرة فيها، و لا نهوض لفكرة لا عزلة فيها، إذ المقصود من العزلة تفرغ القلب، و المقصود من التفرغ هو جولان القلب و اشتغال الفكرة، و المقصود من اشتغال الفكرة تحصيل العلم و تمكنه من القلب، و تمكن العلم بالله من القلب هو دواءه و غاية صحته، و هو الذي سماه الله القلب السليم، قال تعالى في شأن القيامة: (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) الشعراء/89 أي صحيح، و قد قالوا إن القلب كالمعدة، إذا قويت عليها مرضت، و لا تنفعها إلا الحمية و هي قلة موادها و منعها من كثرة الأخلاط..

كذلك القلب، إذا قويت عليه الخواطر و استحوذ عليه الحس مرض و ربما مات، و لا ينفعه إلا الحمية منها، و الفرار من مواطنها و هي الخلطة، فإذا اعتزل عن الناس و استعمل الفكرة، نجح دواؤه و استقام قلبه، و إلا بقي سقيما حتى يلقى الله بقلب سقيم بالشك و الخواطر الرديئة نسأل الله العافية.

قال الجنيد رضي الله عنه: أشرف المجالس، الجلوس مع الفكرة في ميدان التوحيد، و قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي: ثمار العزلة الظفر بمواهب المنة، و هي أربعة: كشف الغطاء و تنزل الرحمة و تحقق المحبة و لسان الصدق في الكلمة، قال تعالى: (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ..) مريم 49.

و اعلم أن في الخلوة عشر فوائد:

الفائدة الأولى: السلامة من آفات اللسان، فإن من كان وحده لا يجد من يتكلم معه، و قد قال عليه السلام: "رحم الله عبدا سكت فسلم أو تكلم فغنم" و لا يسلم في الغالب من آفاته إلا من آثر الخلوة على الاجتماع، و قال شيخ شيوخنا سيدي علي رضي الله عنه: إذا رأيت الفقير يؤثر الخلوة على الاجتماع و الصمت على الكلام و الصيام على الشبع، فاعلم أن جبحه قد عسّل، و إذا رأيته يؤثر الخلطة و الكلام و الشبع على ضدها، فاعلم أن جبحه خاوي، و قال في القوت: وفي كثرة الكلام قلة الورع و عدم التقوى و طول الحساب و نشر الكتاب و كثرة الطالبين و تعلق المظلومين بالظالمين، و كثرة الإشهاد من الكرام الكاتبين، و دوام الإعراض عن الملك الكريم، لأن الكلام مفتاح كبائر اللسان و فيه الكذب، و فيه الغيبة و النميمة و الزور، و البهتان، ثــم قال: و الخبر أكثر خطايا ابن آدم في لسانه، و أكثر ذنوبا يوم القيامة أكثرهم خوضا فيما لا يعني..

الفائدة الثانية: حفظ البصر و السلامة من آفات النظر، فإن من كان معتزلا عن الناس سلم من النظر إليهم، و إلى ما هم منكبون عليه من زهرة الدنيا و زخرفها، قال تعالى: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ) طه131، فتمنع بذلك النفس من التطلع إليها و الاستشراف لها و منافسة أهلها، و قال محمد بن سيرين رضي الله عنه: إياك و فضول النظر فإنه يؤدي إلى فضول الشهوة، و قال بعض الأدباء: من كثرت لحظاته دامت حسراته، و قالوا: إن العين سبب الحين، أي الهلاك، و من أرسل طرفه إقتنص حتفه، و إن النظر بالبصر إلى الأشياء يوجب تفرقة القلب.

الفائدة الثالثة: حفظ القلب و صونه عن الرياء و المداهنة و غيرهما من الأمراض، قال بعض الحكماء: من خالط الناس داراهم و من داراهم راءاهم، و من راءاهم وقع فيما وقعوا فيه فهلك كما هلكوا، و قال بعض الصوفية، قلت لبعض الأنذال المنقطعين إلى الله : كيف الطريق إلى التحقيق، قال : لا تنظر إلى الخلق، فإن النظر إليهم ظلمة،قلت لا بد لي ، قال : فلا تسمع كلامهم فإن كلامهم قسوة، قلت لا بد لي، قال: فلا تعاملهم فإن معاملتهم خسران و حسرة و وحشة، قلت أنا بين أظهرهم لا بد لي من معاملتهم، قال : لا تسكن إليهم فإن السكون إليهم هلكة، قلت: هذا لعله يكون، قال: يا هذا، تنظر إلى اللاعبين و تسمع كلام الجاهلين و تعامل البطالين و تسكن إلى الهالكين، و تريد أن تجد حلاوة الطاعة و قلبك مع غير الله، هيهات هيهات، هذا لا يكون أبدا، ثم غــاب عني..

و قال القشيري رضي الله عنه: فأرباب المجاهدة إذا أرادوا صون قلوبهم عن الخواطر لم ينظروا إلى المستحسنات، أي من الدنيا، قال : و هذا أصل كبير لهم في المجاهدات في أحوال الرياضات..

الفائدة الرابعة: حصول الزهد في الدنيا و القناعة منها، و في ذلك شرف للعبد و كماله و سبب محبته عند مولاه لقوله صلى الله عليه وسلم: " ازهد في الدنيا يحبك الله، و ازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس "

و لا شك أن من انفرد عن الناس، و لم ينظر إلى ما هم فيه من الرغبة في الدنيا و الانكباب عليها يسلم من متابعتهم في ذلك، و يسلم من متابعة الطباع الرديئة و الأخلاق الدنيئة، و قل من يخالطهم أن يسلم من ما هم فيه، و قد روي عن نبي الله عيسى عليه السلام قال: لا تجالسوا الموتى فتموت قلوبكم، قالوا من الموتى يا روح الله، قال: المحبون في الدنيا الراغبون فيها.

الفائدة الخامسة: السلامة من صحبة الأشرار و مخالطة الأرذال، و في مخالطتهم فساد عظيم و خطر جسيم، ففي بعض الأخبار: مثل الجليس السوء كمثل الكير، إذا لم يحرقك بشرره علق عليك من ريحه، و قال سيدي عبد الرحمن المجدوب رضي الله عنه: الجلسة مع غير الأخيار ترذل، و لو تكون صافية .

و أوحى الله إلى داوود عليه السلام أن يا داوود ما لي لا أراك منتبذا وحدانيا، قال إلــهي قبلت الخلق من أجلك، فقال يا داوود، كن يقضانا و ارتد لنفسك إخوانا، و كل أخ لا يوافقك على مسرتي فلا تصحبه، فإن لك عدوّ يقسى قلبك و يباعدك مني، فإن أردت الصحبة فعليك بصحبة الصوفية، فإن صحبتهم كنز لا نفاذ له، قال الجنيد رضي الله عنه: إذا أراد الله بعبد خيرا أوقعه إلى الصوفية و منعه صحبة القراء، و قال آخر: و الله ما أفلح من أفلح إلا بصبة من أفلح ..

الفائدة السادسة: التفرغ للعبادة و الذكر و العزم على التقوى و البر، و لا شك أن العبد إذا كان وحده تفرغ إلى عبادة ربه، و انجمع عليها بجوارحه و قلبه لقلة من يشغله عن ذلك، قال في القوت: و أما الخلوة، فإنها تفرغ القلب من الخلق، و تجمع الهم بالخالق، و تقوي العزم على الثبات... .

الفائدة السابعة: وجدان حلاوة الطاعات، و تمكن لذيذ المناجاة لفراغ سره، و هذا مجرب صحيح، قال أبو طالب: و لا يكون المريد صادقا حتى يجد في الخلوة من الحلاوة و النشاط و القوة ما لا يجده في العلانية، و حتى يكون أنسه في الوحدة و روحه في الخلوة و أحسن أعماله في السر .

الفائدة الثامنة: راحة القلب و البدن، فإن في مخالطة الناس ما يوجب تعب القلب بالاهتمام بأمرهم، و تعب البدن بالسعي في أغراضهم و تكميل مرادهم، و إن كان في ذلك الثواب، فقد يفوته ما هو أعظم و أهم و هو جمع القلب في حضرة الرب.

الفائدة التاسعة : صيانة نفسه و دينه من التعرض للشرور و الخصومات التي توجبها الخلطة، فإن للنفس تولعا و تسارعا للخوض في مثل هذا إذا اجتمعت بأرباب الدنيا و زاحمتهم فيها، و للشافعي رضي الله عنه:

و من يذق الدنيا فإني طعمتها

و سيق إليّ عذبها و عذابها

فلم أرها إلا غرورا و باطلا

كما لاح في ظهر الفلاة سرابها

و ما هي إلا جيفة مستحيلة

عليها كلاب همهن اجتذابها

فإن تجتنبها عشت سلما لأهلها

و إن تجتذبها ناهشتك كلابها

فطوبى لنفس أوطأت قعر بيتها

مغلقة الأبواب مرخى حجابها

الفائدة العاشرة: التمكن من عبادة الفكر و الاعتبار، و هو المقصود الأعظم من الخلوة، و في الخبر: تفكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة، و كان نبي الله عيسى عليه السلام يقول: طوبى لمن كان كلامه ذكرا و صمته تفكرا و نظره عبرة ، و إن أكيس الناس من دان نفسه و عمل لما بعد الموت، و قال كعــب : من أراد شرف الآخرة فليكثر من التفكر، و كــان أفضل عبادة أبي الدرداء التفكر، و ذلك أنه يصل به إلى حقائق الأشياء، و تبين الحق من الباطل، و يطلع بها أيضا على خفايا آفات النفوس و مكائدها، و غرور الدنيا، و يتعرف بها وجه الحيل في التحرز عنها و الطهارة منها، قــال الحسن رضي الله عنه: الفكرة مرآة تريك حسنك من سيئك و يطلع بها أيضا على عظمة الله و جلاله إذا تفكر في آياته و مصنوعاته، و يطلع بها أيضا على آلائه و نعمائه الجليلة و الخفية، فيستفيد بذلك أحيانا سنية يزول بها مرض قلبه و يستقيم بها على طاعة ربه، قال الشيخ ابن عباد رضي الله عنه: فهذه ثمرات عزلة أهل البداية، و أما أهل النهاية، فعزلتهم مصحوبة معهم، و لو كانوا وسط الخلق لأنهم أقوياء رضي الله عنهم، محجوبون بالجمع عن الفرق، و بالمعنى عن الحس، استوت عندهم الحلوة و الخلطة لآنهم يأخذون النصيب من كل شيء، و لا يأخذ النصيب منهم شيء، و في هذا المعنى قال شيخ شيوخنا المجذوب رضي الله عنه:

الخلق نوار و أنا رعيت فيهم

هم الحجب الكبار و المدخل فيهم

 

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire