كيف تخرق لك العوائد و أنت لم تخرق من نفسك العوائد.

   قلـت: العوائد كل ما تعودته النفس و ألفته و استمرت معه حتى صعب خروجها عنه، سواء كان ظلمانيا أو نورانيا، كتتبع الفضائل و كثرة النوافل، و هي على قسميــن:

   عوائد ظاهرة حسية و عوائد باطنة معنوية..

   فمثال العوائد الحسية كثرة الأكل و الشرب و النوم و اللباس و خلطة الناس و الدخول في الأسباب و كثرة الكلام و المخاصمة و العتاب، و الاستغراق في العبادة الحسية أو العلوم الرسمية و غير ذلك..

   و مثال العوائد المعنوية، حب الجاه و الرياسة و طلب الخصوصية و حب الدنيا و المدح، و كالحسد و الكبر و العجب و الرياء، و الطمع في الخلق و خوف الفقر، و هم الرزق و الفظاظة و القسوة و غير ذلك مما تقدم..

   فمن خرق من نفسه عوائدها الحسية بالرياضات القهرية خرقت له العوائد الحسية كالطيران في الهواء و المشي على الماء و نفوذ الدعوة و غير ذلك من الكرامات الحسية..

   و من خرق من نفسه عوائدها المعنوية، خرقت له العوائد الباطنية، كرفع حجب الغفلة و تطهير القلوب و كشف الحجاب و فتح الباب و تحقيق العرفان و الترقي إلى مقام الإحسان و هذا هو المعتبر عند الأكياس، و هو المطلوب من سائر الناس..

   و أما خرق العوائد الحسية فقد تكون لمن ليست لهم خصوصية كالسحرة و أرباب الشعوذة، نعم من جمع بينهما خرقت له فيهما، فكيف تطلب أيها المريد أن تخرق لك عوائد نفسك حتى تدخل حضرة قدسك و أنت لم تخرق عوائد نفسك، فما حجب النفس عن الشهود إلا ما تعودته من رؤية هذا الموجود، فلو غابت عن رؤية هذا الموجود لتحقق لها أمر الشهود، و لا يمكن أن تغيب عنه إلا بخرق عوائد نفسها، و قد تقدمت حكاية الرجل الذي كان مع أبي يزيد ثلاثين سنة فلم يذق شيئا، فقال له: لو صليت ثلاثمائة سنة لم تذق شيئا لأنك محجوب بنفسك، ثم قال له أذهب الساعة إلى الحجام و احلق رأسك و لحيتك و انزع هذا اللباس و اتزر بعباءة و خلق في عنقك مخلاة و املأها جوزا و اجمع الصبية حولك و قل بأعلى صوتك، من يصفعني صفعة أعطيه جوزة، و ادخل السوق و أنت على هذه الحال حتى ينظر إليك كل من عرفك، ثم قال له: فلا مطمع لأحد فيما حجب عن العامة من أسرار الغيب حتى تموت نفسه، و يخرق عوائد العامة، فحينئذ تخرق لك العوائد و تظهر لك الفوائـد /.

   و تقدمــت أيضا في باب الخمول قصة الغزالي و الششتري و المجذوب و غيرهم ممن خرقوا العوائد، و ظهرت لهم الفوائد، و أما من بقي مع عوائد نفسه فلا يطمع أن يتمتع بحضرة قدسه، قال الشيخ أبو المواهب رضي الله عنه: من ادعى شهود الجمال قبل تأدبه بالجلال فارفضه، فإنه دجــال؛ و لا جلال أعظم على النفس من خرق عوائدها، كتبديل العز بالذل و الغنى بالفقر و الجاه بالخمول و غير ذلك..

   و قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: اللهم إن القوم قد حكمت علهم بالذل حتى عزوا و حكمت عليهم بالفقد حتى وجدوا، فلا مطمع في نيل العز بالله حتى يتحقق بالذل له، و لا في نيل الغنى به حتى يتحقق بالفقد مما سواه، و قال أبو حمزة البغدادي رضي الله عنه: علامة الصوفي الصادق أن يفتقر بعد الغنى و يذل بعد العز و يخفى بعد الشهرة /.

   فهذه الأخبار كلها تدل على أن خرق عوائد النفس شرط في تحقق نيل الخصوصية، فمن ادعاها قبل أن يخرقها فهو كذاب كما تقدم عند أبي المواهب، و كتب شيخ شيوخنا رضي الله عنه إلى بعض الإخوان: أمــا بعد: فإن أردتم أن تكون أعمالكم زكية، و أحوالكم مرضية، فقللوا من العوائد، فـإنها تمنع الفوائـد/.

   و سمعته رضي الله عنه يقول: من جملة العوائد تتبع الفضائـل، و كثرة النوافل، فإنه يشتت القلب..

 و إنما يلزم المريد ذكرا واحدا و عملا واحدا، كل واحد مما يليق به، أو كلام هذا معناه، فخرق العوائد إبدالها بضدها، كتبديل كثرة الأكل و النوم بالجوع و السهر، و كتبديل كثرة اللباس بالتقلل منه أو ما خشن منه كالمرقعات و نحوها، و كتبديل الخلطة بالعزلة و الأسباب بالزهد، و الكلام بالصمت و سوء الخلق بحسن الخلق، و كتبديل حب الجاه و الرياسة بالذل و الخمول و سقوط المنزلة عند الناس، و حب الدنيا بالزهد فيها و الفرار منها، و كاتصافه بالتخلية من الرذائل و التحلية بالفضائل، فإذا تحقق المريد بهذه الأمور خرقت له العوائد على ما يريد حتى يكون بســم الله عنده موافقة، لكن من الله، فيكون أمره بالله، و ما ذلك على الله لعزيز، و لا بد لخرق العوائد الباطنية من شيخ كامل جامع بين حقيقة و شريعة يحملك بهمته، فإذا رميت يدك في نفسك حملتك الهمة و نصرتك القدرة، فقتلتها بالمرة، و أما إذا لم يكن لك شيخ، كلما قتلتها رجعت أكبر مما كانت، و لا تموت النفس الحية إلا مع الأموات..

   قال شيخ شيوخنا رضي الله عنه: هذا الأمر مجرب، و بالله التوفيق..

 و خرق العوائد الباطنية التي هي رفع الحجاب و شهود المحبوب لا يكون بمجرد الطلب دون السعي في السبب مع تحقق الأدب كما نبه على ذلك بقوله:

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire