ادفن وجودك في أرض الخمول، فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه.

الدفن هو التغطية و الستر، و الخمول سقوط المنزلة عند الناس، و نتاج الشجرة ثمرتها، استعير هنا للحكم، و المواهب و العلوم التي يجتبيها العبد من المعرفة بالله، و ذلك عند موت نفسه و حياة روحه.

قلت : استر نفسك أيها المريد، و ادفنها في أرض الخمول حتى تستأنس به و تستحليه، و يكون عندها أحلى من العسل، و يصير الظهور عندها أمر من الحنظل، فإذا دفنتها في أرض الخمول امتدت عروقها فيه، فحينئذ تجني ثمرتها و يتم لك نتاجها، و هو سر الإخلاص و التحقق بمقام خواص الله، و أما إذا لم تدفنها في أرض الخمول، و تركتها على ظهر الشهرة تجول ماتت شجرتها، أو أسقطت ثمرتها، فإذا جنى العارفون ما غرسوه من جنات معارفهم من العلوم و ما دفنوه في كنوز الحكم و مخازن الفهوم، بقيت أنت فقيرا سائلا، أو سارقا صائلا، قال سيدنا عيسى لأصحابه: أين تنبت الحبة، قالوا في الأرض، قال كذلك الحكمة، لا تنبت إلا في قلب كالأرض..

و قال بعض العارفين: كلما دفنت نفسك أرضا أرضا سما قلبك سماء سماء، و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: " رب أشعث أغبر، ذي طمرين، تنبوا عنه أعين الناس، لو أقسم على الله لأبره في قسمه " و كان عليه الصلاة و السلام جالسا مع الأقرع بن حابس كبير بني تميم، فمر عليه رجل من فقراء المسلمين، قال عليه السلام للأقرع: " ما تقول في هذا " قال، هذا من فقراء المسلمين، حقيق إن خطب أن لا يزوج، و إن استأذن أن لا يؤذن له، و إن قال أن لا يسمع له، ثم مر بهما رجل من المترفين فقال له عليه السلام : " و ما تقول في هذا " قال، هذا حقيق إن خطب أن يزوج، و إن استأذن أن يؤذن له و إن قال أن يسمع له، فقال له صلى الله عليه و سلم: " هذا خير من ملء الأرض من هذا " يعني إشارة إلى الفقير، و في مدح الخمول أحاديث كثيرة، و فضائل مشهورة، و لو لم يكن فيه إلا الراحة و فراغ القلب لكان كافيا، و أنشد الحضرمي :

عش خامل الذكر بين الناس و ارض به

فذلك أسلم للدنيا و للديــن

من عاشر الناس لم تسلم ديانتـــه

و لم يزل بين تحريك و تسكين

و قال بعض الحكماء: الخمول نعمة و النفس تأباه، و الظهور نقمة و النفس تهواه، و قــال آخر: طريقتنا هذه لا تصلح إلا بقوم كنست بأرواحهم المزابل..

قلــت: و يجب على من ابتلى بالجاه و الرياسة أن يستعمل من الخراب ما يسقط به جاهه، و إن كان مكروها دون الحرام المتفق عليه بقصد الدواء، كالسؤال في الحوانيت أو الديار، و الأكل في السوق و حيث يراه الناس، و كالرقود فيه، و كالسقي بالقربة، و المشي بالحفا، و إظهار الحرص و البخل و الشح، و كلبس المرقعة و تعليق السبحة الكبيرة، و كل ما يثقل على النفس من المباح أو المكروه دون الحرام، قال الشيخ زروق رضي الله عنه: و كما لا يصلح دفن الزرع في أرض رديئة، لا يجوز الخمول بأرض غير مرضية، و قياس ذلك بالغصة لا يصح، لأن فوت الحياة الحسية مانع من كل خير واجبا و مندوبا، و تفويتها مع إمكان إبقائها محرم إجماعا لقوله تعالى: (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) البقرة/195بخلاف الخمول لا يفوت به شيء من ذلك، إنما يفوت به الكمال و هو نفي الجاه و المنزلة و أصله الإباحة اهـ.

و أجاب بعضهم: بأنه إذا حاز لقوت الحياة الفانية، فأولى أن يجوز لقوت الحياة الدائمة، و هي المعرفة، فتأمله، و قصــة لص الحمام تشهد له، و الله تعالى أعلم.

و لقد سمعت شيخ شيوخنا رضي الله عنه يقول: الفقير الصديق يقتل نفسه بأدنى شيء من المباح، و الفقير الكذاب يقع في المحرم و لا يقتلها، و كان كثيرا ما ينهى عن الأحوال الظلمانية و يقول: عندنا من المباح ما يغنينا عن المحرم و المكروه، و أما السؤال فهو مكروه، أو حرام لقصد قوت الأشباح مع الكفاية، و أما لقصد قوت الأرواح فليس حرام، و قد ذكر القسطلاني في شرح البخاري عن ابن عربي الفقير في بدايته، فانظره، و قد ذكره في المباحث الأصلية مستوفى، و سيأتي الكلام عليه إن شاء الله عند قوله: لا تمدن يدك إلى الأخذ من الخلائق...،

فإن قلتَ أن هذا الخراب الذي ذكرت فيه شهرة أيضا، إذ الخمول هو الخفاء عن أعين الناس، و هذا فيه ظهور كبير، قلـت، الخمول هو إسقاط المنزلة عند الناس و كتمان سر الولاية، و كل ما يسقط الولاية عندهم، و ينفي تهمة الولاية، فهو خمول و إن كان في الحس ظهورا، و لذلك كان شيخنا رضي الله عنه يقول: طريقتنا منها الخمول في الظهور، و الظهور في الخمول، و قال النجيبي في الإنالة ما نصه، من يقل من الصوفية أن المرقعة شهرة، فجوابه أن سلمان الفارسي سافر في زيارة أبي الدرداء من العراق إلى الشام راجلا، و عليه كساء غليظ غير مضموم، فقيل له: أشهرت نفسك، فقال : الخير خير الآخرة، و إنما أنا عبد ألبس كما يلبس العبد، فإذا أعتقت لبست حلة لا تبلى حواشيها اهـ.

و من ذلك قصة الغزالي رضي الله عنه من حملة جلد الثور على ظهره حين ملاقاة شيخه الخزاز و كنسه السوق، و استعماله القربة ليسقي الناس كذا سمعتها من الشيخ مرارا، و لم أقف عليها عند أحد ممن عرف به، و انظر ما جرى له مع ابن عربي عند قوله: رب عمر اتسعت آماده و قلت إمداده، و كذلك قصة الششتري رضي الله عنه مع شيخه ابن سبعين، لأن الششتري كان وزيرا و عالما، و أبوه كان أميرا، فلما أراد الدخول في طريق القوم قال له شيخه: لا تنال منها شيئا حتى تبيع متاعك، و تلبس قشابة و تأخذ بنديرا و تدخل السوق، ففعل جميع ما ذكر له و قال: ما نقول في السوق، قال له قل: بدأت بذكر الحبيب، فدخل السوق يضرب بنديره و يقول: بدأت بذكر الحبيب، فبقي ثلاثة أيام و خرقت له الحجب، فجعل يغني في الأسواق بعلوم الأذواق، و من كلامه رضي الله عنه:

شويخ من أرض مكناس

في وسط الأسواق يغني

أش عــليا من الناس

واش على النـاس مني

ثم قال :

اش حد من حد

افهموا ذي الإشارة

و انظروا كبر س

و العصا و الغرارة

هكذا عشت بفاس

و كدهان هوني

أش عليا من الناس

واش على الناس مني

و ما أحسن كلامه

إذا يخطر في الأسواق

و ترى أهل الحوانت

تلتفت لو بالاعناق

بالغرارة في عنقو

بعكيكزو و بغراف

شيخ يبني على ساس

كإنشاء الله يبني

و كذا قصة الرجل الذي كان مع أبي اليزيد البسطامي الذي بقي معه ثلاثين سنة، فكان لا ينقطع على مجلسه و لا يفارقه، فقال له يوما: يا أستاذ، أنا منذ ثلاثين سنة، أصوم النهار و أقوم الليل، و قد تركت الشهوات، و لست أجد في قلبي شيئا من هذا الذي تذكر البتة، و أنا أومن بكل ما تقول و أصدقه، فقال له أبو اليزيد رضي الله عنه: لو صليت ثلاثمائة سنة و أنت على ما أراك عليه لن تجد منه ذرة واحدة، قال و لِم يا أستاذ، قال له: لأنك محجوب بنفسك، فقال: أفلهذا دواء حتى ينكشف هذا الحجاب قال أبو اليزيد نعم، و لكنك لا تطيقه و لا تعمل به، قال بل أقبل و أعمل، قال له أبو اليزيد: اذهب الساعة إلى الحجام و احلق رأسك و لحيتك، و انزع هذا اللباس و اتزر بعباءة و علق في عنقك مخلاة، و املأها جوزا و اجمع حولك صبيانا، و قل بأعلى صوتك: يا صبيان من يصفعني أعطيه جوزة، و ادخل سوقك الذي تعظم فيه، و أنت على هذه الحالة حتى ينظر إليك كل من عرفك، فقال يا أيا اليزيد، سبحان الله، أيقال لمثلي هذا و تحسبني أفعله، فقال له: قولك سبحان الله كفر، قال له و كيف، قال : لأنك عظمت نفسك فسبحتها، قال يا أبا اليزيد، لست أقدر على هذا و لا أفعله فدلني على غير هذا حتى أفعله فقال له أبو اليزيد: أبدا ، بهذا قبل كل شيء حتى يسقط جاهك، و تذل نفسك، ثم بعد ذلك أعرفك بما يصلح لك، قال لا أطيق هذا، قال إنك قد قلت أنك تقبل و تعمل، و أنا أعلم أن لا مطمع لعبد فيما حجب عن العامة من أسرار الغيب حتى تموت نفسه و يخرق عوائده العامة، فتخرق له العوائد و تظهر له الفوائد اهـ.

و كذلك قصة أبي عمران البردعي مع شيخه أبي عبد الله التاودي بفاس من حلق رأسه، و لبسه جلابية و أخذ خبزة ينادي عليها من يخلصها، ففعل جميع ذلك، و كذلك قصة شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن المجذوب، من أكله التبن عند أشجار الناس، و غنائه في الأسواق، و خرابه بالقصر مشهور حتى طوف بها مرارا، و كذلك قصة سيدي علي العمراني، و خرابه بفاس مشهور كشمس على علم، سكن السفليات حتى مات رضي الله عنه، و كذلك قصة شيخنا مولاي العربي من لبسه الغرارة و سقيه بالقربة و غير ذلك مما هو معلوم، فهذه الحكايات تدل على أن الخمول ليس هو ما يفهمه العوام من لزوم البيوت و الفرار إلى الجبال، فذلك هو عين الظهور عند المحققين، و أما الخمول هو كما قال الشيخ زروق رضي الله عنه: تحقق النفس بوصفها الأدنى و شعورها به أبدا، و وصفها الأدنى هو الذل و كل ما يثقل عليها، فمرجعه للتحقق بوصف التواضع و فائدة تحصيل العمل و كمال الحقيقة اهـ.

فإن قلت أن في فعل هذه الأحوال التعرض لكلام الناس و إيقاعهم في الغيبة، قلت هذا مبني على القصد و النية، و كل من فعل شيئا من ذلك، فإنما قصده قتل نفسه، و تحقيق خلاصه و دواء قلبه، و هم مسامحون لمن قال فيهم، عاذرون له، قال سيدي علي في كتابه: نحن نعذر من عذرنا و نعذر من لم يعذرنا، و قال الشيخ زروق في قواعده:

قاعــدة: حكم الفقه عام في العموم ، لأن مقصوده إقامة رسم الدين و رفع مناره و إظهار كلماته، و حكم التصوف خاص في الخصوص، و لم يصح إنكار الصوفي على الفقيه، و لزم الرجوع من التصوف إلى الفقه في الأحكام لا في الحقائق اهـ.

تنبيـــه: هذه الأدوية التي ذكرنا إنما هي في حالة مرض، و أما من تحقق شفاؤه، و كمل فناؤه، فهو عبد الله سواء أظهره الله أو أخفاه، و في هذا قال أبو العباس المرسي رضي الله عنه: من أحب الظهور فهو عبد الظهور، و من أحب الخفاء فهو عبد الخفاء، و عبد الله سواء أظهره عليه أم أخفاه اهـ.

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire