معنى الحكمة:

الحق سبحانه وتعالى يقول: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ، وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثيراً.. ويقول سبحانه: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ.. وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ... علماؤنا قالوا أن الحكمة هي السنة النبوية الشريفة، والحق ما قالوا.. قال صلى الله عليه وسلم: ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه.. فالحكمة هي تمام الهدي النبوي الشريف، والتربية الربانية التي أرتقى بها صلى الله عليه وسلم إلى أعلى درجات الرضا والرضوان، وهي ثمرات اتباع الوحي الرباني والتعاليم الرحمانية.. قال تعالى: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا.. فالآية هنا تدل على أن الكتاب والحكمة منزلان من عند الله وحده، وعطف الحكمة على الكتاب دليل على انها منه، وقال تعالى في إجابة دعوة أبينا إبراهيم: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ... فالآية هنا تربط التزكية باتباع ما يتلى من آيات الله، والحكمة مرتبطة بعلم كتاب الله..

وجاء في حق أبينا إبراهيم وآله من قوله تعالى: فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا... والآية هنا تدل على الكتاب والحكمة والملك.. اما في حق نبي الله داود يقول تعالى: وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ.. وهنا واضح أن الملك هنا سبق الحكمة، وبعده جاء التفرس في العلم: وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ..

اما في حق نبي الله عيسى عليه السلام قال تعالى: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ.. وأضيف هنا علم التوراة وعلم الإنجيل على الحكمة وعلى الكتاب.. وهذا ما يجب فيه البحث والتحقيق بالنية والتصديق..

أما رجعنا إلى سورة الإسراء العظيمة فإننا نجد دلالة واضحة في قوله تعالى: ... ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ... وإذا رجعنا إلى كل السورة فإننا نجد ما تقوم به الحكمة، وهي سلوك متكامل وإن كان ترتيبه يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار/ إلا أن الأبحاث في كتاب الله لم تصل إلى هذه الذروة في التحقيق والتدقيق، ونبدأ فقط من الآية 20 أو 21 من السورة الشريفة وبكل إيجاز لأن الموضع لا يسمح:

يوصي الحق سبحانه أولا بالقصد في العبادة... ويوصي بالإحسان للدائرة القريبة والضيقة (الوالدين...) ثم ينبه الكريم إلى الدائرة الأوسع (وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ..) ويدخل المحتاج مع ذوي القربى، ويوصي سبحانه بالتوسط في الفعل (وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا...) ويبين التوسط بين الإغلال والإقتار... ثم ينتقل سبحانه إلى مدونات الفعل المتعلقة بالقرب والبعد (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) ثم مع البعد، ويدخل في أعمال النفس (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا) ثم عمل الجسد (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) ثم في الدائرة الكبرى وعلى رأسها اليتيم (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ثم يمر سبحانه على المسؤولية (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا).. ثم بدائرة المعاملات اليومية (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ) وحفظ الجوارح في كل ما يتعلق بذلك وما حوله (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) ثم يرجع إلى النفس يعلمها السير والسلوك والاعتدال في ملك الله (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا).. ثم يختم سبحانه كل ما ذكر وما قبله بقوله سبحانه: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا... فحسنه هو ما أمر به وسيئه ما زاغت فيه النفس ثم يبين سبحانه بالقول الفصل: ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ.. ثم يضيف سبحانه قولا يبرز الحكمة من ويبينها على مناقضاتها، ذلك أن كل عمل مما ذكر لم يقصد فيه وجه الله وكان فيه طلب لعوض في الدين أو الدنيا فإنه مناف للحكمة الربانية وذلك معنى قوله تعالى: وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا.. فإذا قصد العامل غير وجه الله فذلك إلهه الذي عمل له، ومن كان كذلك كان أبعد ما يكون من الحكمة، ومن كان كذلك علمه الله الحكمة التي هي نور في الكتاب وهبة من العزيز الوهاب.. قال تعالى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ، وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثيراً...

لعلي أطلت ولعل ما ذكرته مفيد وهو على الموضوع بصلة.. ومن تأمل أقوال الصحابة والتابعين والعلماء العاملين فإنه يجد فسيفساء نورانية من الأقوال والدلالات على هذا الخير العظيم، الذي ما كان مع علم إلا رفعه وزانه وما غاب عن فعل إلا أنقصه وشانه، ولا تدرك الحكمة بالرغبة والاجتهاد وإنما هي مدد من الله وإمداد، لقوله تعالى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ... فقد قيل عن الحكمة:

قال صلى الله عليه وسلم: الحكمة ضالة المؤمن ، يأخذها حيث وجدها.. وهناك أحاديث أخرى مماثلة منها من تم تضعيفه إلا ان المعاني سليمة والروايات مشهورة..

وقال عبد الله بم عباسt الحكمة : هي المعرفة بالقرآن : ناسخه ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ، ومقدمه ومؤخره ، وحلاله وحرامه وأمثاله..

وقال عبد الله بن عمر t الحكمة : ثلاث : آية محكمة ، وسنة ماضية ، ولسان ناطق بالقرآن..

وقال جعفر الصادق t الحكمة: ضياء المعرفة، وميزان التقوى، وثمرة الصدق.. وما أنعم الله على عبد بنعمة أعظم وأنعم وأرفع ، وأجزل وأبهى من الحكمة للقلب..

وقال مالك بن أنس t إنه ليقع في قلبي أن الحكمة : الفقه في دين الله، وأمر يدخله الله في القلوب من رحمته وفضله، ومما يبين ذلك.. أنك تجد الرجل عاقلاً في أمر الدنيا إذا نظر فيها ، وتجد آخر ضعيفاً في أمر دنياه عالماً بأمر دينه بصيراً به كما يؤتيه الله إياه ويحرمه هذا..

وقال الحكيم الترمذي: أصول الحكمة : هي علم البدء ، وعلم الميثاق ، وعلم المقادير ، وعلم الحروف..

وهذه بعض أقوال العارفين بالله، وإن البعض ينكر عليهم، وذلك فقط لجهلهم بهم..

قال احدهم: الحكمة : هي متابعة الطريق من حيث توفيق الحق لا من حيث همة النفس..

وقال آخر: الحكمة: هي برهان الصديقين، ونزهة المتقين، وفردوس العارفين، وميراث النبيين والمرسلين، فاطلبوها قبل ذهابها..

وقال غيره: الحكمة هي العلم الباطن.. وقال: هي علم بمعلوم خاص، وهي صفة تحكم، ويحكم بها ولا يحكم عليها.. وقال أيضا: كل علم لا حكمة فيه فهو ناقص، وكل حكمة لا علم فيها فهي قاصرة، فتمام العلم بالحكمة وكمال الحكمة بالعلم. والعلم والحلم توأمان، كما أن الحكم والحكمة توأمان.. والحكم مع العلم أثر من الحكمة يجعل العلم نافعا ونازلا بمحله وموقعه من العدل، والحلم مع الحكمة أثر من العلم يجعل الحكمة سليمة عن الحكم الطبيعية ونازلة على محلها من الاعتدال النافع للخلق، فعلى هذا يدخل أثر العلم في الحكمة، ويتصل بها، ويخرج أثر الحكمة إلى العلم ويقترن به ... وإليه الإشارة بقوله تعالى : وَلَمّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاستَوَى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزي الْمُحْسِنينَ..

وقال آخر: الحكمة سهام رب العالمين، وقلوب المريدين أهدافها، وألسن الحكماء قسيها، والرامي: الحي القيوم، والخطأ معدوم...

وقال آخر: حكمة الجسم في ترك نعيم الدنيا .. وحكمة الروح في ترك نعيم العقبى .. وحكمة العقل في احتمال أسرار الأولياء.. فالحكمة الأولى للزاهدين ، والثانية للصادقين ، والثالثة للعارفين...

ولعلي عرجت على كثير من المعاني للحكمة.. لعل الله يفتح لنا في الطب الإسلامي مسلكا ومنهجا، خصوصا وفي اللغة العربية كان يوصف الطبيب بالحكيم (وليس الآن وبكل أسف) وليس هذا انتقاصا من الأطباء المسلمين، والكل يعلم صلابة وصبر وحنكة الأطباء العرب الآن في كل التخصصات وفي كل الدول..

فقط أردت أفتح قوسا معرفيا، وليس الأمر فيه موجه إلى الأطباء بقدر ما هو موجه إلى الحكومات وإلى السياسات، وإن كان ما نتكلم عنه مستحيل حصوله في الوقت والساعة، لكن على الأقل تسبق به المعرفة، وتكون عليه التجربة ويتم تداوله بين الناس.. فمن كان ينوي ان الحجامة يرجع العمل بها بعد ما ألصق بها من أقوال واستخفاف بالعمل بها في العشريات الماضية.. فقط نطلب اهتمام المتخصصين بالموضوع، والجرأة تفرض نفسها، ولو بعد حين..

نرجع إلى الكلمة الدالة "الحكمة" ونحاول أن نحللها على أنوار الحروف، وقد سبقت الإشارة إليها، ومن أراد الكتاب يرجع إليه في المنتدى تحت عنوان "انوار الحروف فوق ما هو مألوف" الجزء الأول والثاني..

فالحكمة على الأنوار المحمدية يوضحها هذه الرسم التالي:

فيكون المعنى النواراني للكلمة على النحو التالي:

امتثال الأوامر في ما يرضي الله/ والعلم بمعلوم الله / والرحمة بمخلوقات الله/ والعمل جاهدا في معرفة الله/ والنفع لجميع ما خلق الله/ والفرار وعدم الركون إلى ما سوى الله..

فمن توفرت فيه هذه الشروط النورانية أو السلوكات الربانية أو الأنوارالمحمدية، فإنه يكون حكيما في حياته ومهمته، فإن اقترن العلم بالحكمة عنده كان عالما ربانيا، وإن اقترنت الحكمة بالحكم عنده كان حاكما عادلا في حكمه، وقائدا متبصرا في أمره.. وإن اقترنت الحكمة بالطب فتحت له أبواب العناية والرعاية، ورفعت على أيدي صاحبها الأضرار والآلام وشفيت على يديه العلل والأسقام والكل رحمة الله بعباده...

فمن تامل هذه المعاني النورانية لحروف هذه الكلمة القرآنية، وراجع أقوال الصحابة والتابعين والعلماء العالمين، فإنه لا يجد ان احدا منهم حاد على أنوار المعاني وأسرار المباني للكلمة الربانية، وإن كان كل منهم اوضح في أنوار وأبهم في غيرها فإن ذلك راجع إلى طبيعة من طرح السؤال، أو منهج سير المسؤول في طريقته للمعرفة والوصول... وهذا كلام آخر لا يزال علم التحليل يفتقر إليه نسأل الله من فضله..

فإذا أردنا أن نفتح قوسا تحليليا في موضوعنا الطبي، وننحو نفس المنحى التحليلي، وإن كانت كل الشواهد تدل على المرض يكون السبب فيه العبد نفسه، اما الشفاء منه فلا يكون بتوفيق من الله عز وجل وذلك دليل قوله تعالى: وإذا مرضت فهو يشفين.. وقد سبقت الإشارة إلى الآيات فلا داعي للتكرار..

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire