بيان حذف الألف و ثبوتها..

و أما السر في زيادة الألف في سعوا في سورة الحج من قوله تعالى:( وَٱلَّذِينَ سَعَوۡاْ فِيٓ ءَايَٰتِنَا مُعَٰجِزِينَ أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَحِيمِ ٥١) .. و عدم زيادتها في سورة سبأ من قوله تعالى:( وَٱلَّذِينَ سَعَوۡ فِيٓ ءَايَٰتِنَا مُعَٰجِزِينَ أُوْلَٰٓئِكَ
لَهُمۡ عَذَابٞ مِّن رِّجۡزٍ أَلِيمٞ ٥
) فالناظر إلى هذا السر الرباني يرى أن الأنوار لها في ميزان الحق دقائق الحكمة و رقائق العدل..

فالألف: من حروف القبض و له من الحواس امتثال أمر الله تعالى، فنراها ثابتة في سعوا من سورة الحج و محذوفة في سورة سبأ، و السر في ذلك أن الذين سعوا الأولى لا تزال عندهم هذه الحاسة و لم تفقد بعد، و إن كانت ظواهرهم معاندة و يسعون في آيات الله معاجزين فإن بواطنهم مقرة أنهم يحاربون الحق بالباطل و الصلاح بالفساد، و الناظر إلى ما سبق من الآية يتضح له ذلك، قال تعالى: (قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّمَآ أَنَا۠ لَكُمۡ نَذِيرٞ مُّبِينٞ ٤٩ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَهُم مَّغۡفِرَةٞ وَرِزۡقٞ كَرِيمٞ ٥٠ وَٱلَّذِينَ سَعَوۡاْ فِيٓ ءَايَٰتِنَا مُعَٰجِزِينَ أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَحِيمِ ٥١) فالإشارة هنا في الذين سعوا في آيات الله معاجزين هم أهل الكتاب الذين هم متأكدون كل التأكد أنه الحق كما قال تعالى: ٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ يَعۡرِفُونَهُۥ كَمَا يَعۡرِفُونَ أَبۡنَآءَهُمۡۖ وَإِنَّ فَرِيقٗا مِّنۡهُمۡ لَيَكۡتُمُونَ ٱلۡحَقَّ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ ١٤٦).. فهؤلاء لا تزال عندهم هذه الحاسة و لا يزالون يتمتعون بهذا النور عدلا من الحق تعالى و لكنهم لا يمتثلون و بذلك يكون عليهم حجة..

أما في سورة سبأ فأزال الحق حاسة امتثال الأمر بالحق فقال تعالى: (وَٱلَّذِينَ سَعَوۡ فِيٓ ءَايَٰتِنَا مُعَٰجِزِينَ أُوْلَٰٓئِكَ
لَهُمۡ عَذَابٞ مِّن رِّجۡزٍ أَلِيمٞ ٥
) و من نظر إلى ما سلف من الآية يتضح ذلك، قال تعالى:

(وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَا تَأۡتِينَا ٱلسَّاعَةُۖ قُلۡ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأۡتِيَنَّكُمۡ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِۖ لَا يَعۡزُبُ عَنۡهُ مِثۡقَالُ ذَرَّةٖ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَآ أَصۡغَرُ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡبَرُ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ ٣ لِّيَجۡزِيَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِۚ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُم مَّغۡفِرَةٞ وَرِزۡقٞ كَرِيمٞ ٤ وَٱلَّذِينَ سَعَوۡ فِيٓ ءَايَٰتِنَا مُعَٰجِزِينَ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٞ مِّن رِّجۡزٍ أَلِيمٞ ٥) ...

فهؤلاء الكفار الذين اعتمدوا الردود وتعدوا الحدود و جزمزا بالقول أن لن تأتينا الساعة، أزال الحق منهم هذه الحاسة و هذه المقدرة على الامتثال، و حتى لو أرادوا الرجوع و أرادوا الامتثال ما استطاعوا لأنهم فقدوا النور بكفرهم، و لذلك كان جزاؤهم: عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ، (وهو عذاب مخصص في الحجيم ودرك أسفل فيه)و أما الآخرون فقال الحق فيهم: أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ.. (أجارنا الله من عذابه وشر عقابه)

و حتى يفهم هذا النور المحمدي الذي هو امتثال الأمر قال تعالى في حق من سُلبوه في آية أخرى من الأنعام: (وَلَوۡ تَرَىٰٓ إِذۡ وُقِفُواْ عَلَى ٱلنَّارِ فَقَالُواْ يَٰلَيۡتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بَِٔايَٰتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٢٧ بَلۡ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخۡفُونَ مِن قَبۡلُۖ وَلَوۡ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنۡهُ وَإِنَّهُمۡ لَكَٰذِبُونَ ٢٨).. فكيف يتصور أن يقف أهل النار على النار و يرون أهوالها و يعترفون أنهم مجرمون و يتمنون أن لو ردوا إلى الدنيا ليعملون صالحا، و الحق جل في علاه يقول: وَلَوۡ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنۡهُ وَإِنَّهُمۡ لَكَٰذِبُونَ.. و المعنى أنهم فقدوا حاسة المناعة في السيطرة على النفس في امتثال أمر الله بجرمهم و ظلمهم.. فيجب أن يؤخذ هذا السر بالاعتبار ليعرف كيف يميز بين طبقات أهل الجرم و الظلال..

و إذا رجعنا إلى بعض التوضيحات في ألف الامتثال الثابتة و المحذوفة في كل من الكلمات حسب الأنوار نجدها كما يلي:

الامتثال ثابت في (ءامنوا) و (عملوا) كقوله تعالى(وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَنَّةِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ ٨٢ ).. و كذلك (كفروا) و (كذبوا) كقوله تعالى في البقرة: (وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَآ أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَحِيمِ ١٠)... فقد ثبتت ألف الامتثال بثبوتها في كل من الذين آمنوا و عملوا الصالحات كما في الذين كفروا و كذبوا.. و ذلك لثبوت النور الأصلي في البشرية سواء عمل به فيكون من الذين آمنوا و عملوا الصالحات، أو جهله فيكون من الذين كفروا و كذبوا بآيات الله، فيكون نعمة على الذين آمنوا و حجة على الذين كفروا، فالأولى من مقام البسط و الثانية من مقام القبض.. و نجدها كذلك ثابتة في خرجوا و دخلوا و لقوا... لنفس النور الثابت فانتبه لهذا السر..

و نجد أن ألف الامتثال محذوفة بحكمة بالغة من البقرة في: ( باءو) (وَضُرِبَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلۡمَسۡكَنَةُ وَبَآءُو بِغَضَبٖ مِّنَ ٱللَّهِۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَانُواْ يَكۡفُرُونَ بَِٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَيَقۡتُلُونَ ٱلنَّبِيِّۧنَ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّۗ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعۡتَدُونَ ٦١)، فامتثال الأمر الاختياري هنا فات أوانه في عصيان أمر الله فحذفت الألف من الأخير، و ثبتت الألف في الوسط في امتثال الأمر الإجباري الذي هو البوء بغضب الله، يعني أن لم يبق لهم قرار في خيار أمر الطاعة الأول لأن أجله انتهى، و لا خيار في قبول أو رفض العقوبة لأنها حكم صدر..

و كذلك في كلمة (جاءو) و في هذه الكلمة صيغة الماضي، بمعنى أن الفعل حصل في الماضي و انتهى أجل الخيار في امتثال الأمر، فالذي حصل قد حصل و كتب عند الله الحاصل فلا مفر مما حصل إلا بما تحصل.. و هو على وجهين:

الأول يكون الفعل فيه من الحق و العبد مفعول به في التحقيق كما جاء في قوله تعالى في آل عمران (فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدۡ كُذِّبَ رُسُلٞ مِّن قَبۡلِكَ جَآءُو بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلزُّبُرِ وَٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡمُنِيرِ ١٨٤)، فالآية خرجت من مقام القبض وتحكي عن الأمم الخوالي فقد انتهى فعلهم بما كتب عليهم بعدم الإمتثال فيه بالكتب والرسل...

و يمكن أن يكون العبد فيه فاعل بالتشريع في فقدان حاسة امتثال أمر الله كما سبق شرحه و هذا كمثل قوله تعالى في آية الإفك من سورة النور: (إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُو بِٱلۡإِفۡكِ عُصۡبَةٞ مِّنكُمۡۚ لَا تَحۡسَبُوهُ شَرّٗا لَّكُمۖ).. فالذين جاءوا بالافك انتهى عملهم به ولو أرادوا أن يرجعوه لما استطاعوا...

و بنفس السياق جاءت في إخوة يوسف من قوله تعالى: (وَجَآءُوٓ أَبَاهُمۡ عِشَآءٗ يَبۡكُونَ ١٦) و كذلك (وَجَآءُو عَلَىٰ قَمِيصِهِۦ بِدَمٖ كَذِبٖۚ).. يعني عند مجيئهم كان قد حصل ما حصل و لم يبق إلا ما تحصل و لم يبق خيار في الفعل إلا تحمل نتيجة الفعل..

و كذلك الأمر في (تبوءو) فامتثال الأمر مرفوع فيه تحقيقا، و من تتبع الآية يتضح له ذلك قال تعالى: (وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ) فالمقصود بالدار: يثرب.. و المقصود بالذين تبوءوا: الأنصار، و أما السر في رفع تكليف امتثال الأمر بحذف ألفها هو انقباضهم لنور الرسالة بالواو، و هي هبة الكريم.. فيصفهم سبحانه و تعالى فيما تبقى من الآية بقوله تعالى: (يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ) و في الأخير يرتفع الحجاب لوضوح هذا النور النبوي في ختام الآية من قوله تعالى: (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ٩)..

فالملاحظ أن الأنصار أكرمهم الحق بوجود هذا النور لوجود أصل هذا النور سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم، لأن الحق لم يقل: و من يتق شح نفسه، و لكن الكريم قذف بنور حق الوقاية من الشح على باطل النفوس فوقاها و زكاها و أقدرها على رفع تكليف امتثال أمر الألف في تبوءو، فاستسلموا و آمنوا و تنعموا بنور سر الله المصون و سر نوره المكنون المخزون سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم و على آله و صحبه و سلم..

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire