* اما الحرف الثالث من كلمة "مرضت" هو الضاض:

الضاض له من الأنوار: قول الحق.. وهو نور عظيم ومركب، فالحق هو علامة وعنوان كل ما هو أصل وصالح ونافع وواجب... وعكسه هو الضلال لقوله تعالى: فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ.. وعكسه الشك والريب لقوله تعالى: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ.. وعكس الحق ونقيضه الغلو في الدين واتباع الأهواء لقوله تعالى: لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا.. ونقيض الحق كذلك البغي والإثم والفواحش الظاهرة والباطنة لقوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ... .

فالحق باختصار شديد هو ما وافق الفطرة السليمة، فيجب معرفة الحق أولا وتمييزه من غيره، والإيمان به حتى يرسخ في الكيان ويتوطن في الجنان، وتنطق به الجوارح من غير تزييف ولا تكليف.. فالمقصود بقول الحق هو اعتقاده وتبنيه ثم العمل به قولا وفعلا.. وهذا بالتقريب معنى قول الحق..

وللحق درجات ومراتب، لا نغوص في حقائقها العظيمة (وليس هذا مكانه) ولا نستسلم فيها للأقوال الفلسفية (فإنه لا يخدم بحثنا) على قدر معرفة الحق يكون القول به والفعل حقا، ويكون صاحبه محققا...

فالحق محله مع ما ذكرنا هو القلب والفؤاد والكيان، حيث يكون به الإيمان والاطمئنان وعليه المحور في القول والعمل.. وهناك فرق كبير فيه بين عمل العقل فيه وعمل القلب، وهو ما يحتاج العلم إلى بيانه كي تستقيم الرؤيا ودليله في قوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ.. فالذي نزل به هو جبريل الأمين، وما نزل به على القلب هو القرآن العظيم.. ولم ينزله على العقل.. لسبب بسيط أن العقل للتفكر قال تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.. والقلب للتدبر قال تعالى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا..

سمعنا في الفلسفة وعلم النفس على كثير من المسميات كالعقل الباطن... والواقع أنه القلب ومهامه الإيمانية والاعتقادية ومدى تأثيره على حركة الفكر ومهام العقل المختلفة ودليله قوله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا.. أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا.. فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ..

فلو لم يكن في القرآن إلا هذه الآية، لجعلها المتخصصون منارة يهتدون بها في ظلمات الفكر والإحساس.. وقد بينت العلوم الحديثة في علم الأعصاب (neurosciences) أن القلب له جهاز عصبي مستقل (le cœur a son propre système nerveux) وهو جهاز معقد ويسمى عقل القلب (le cerveau du cœur)..

ذلك أنه يوجد في القلب على الأقل 40 ألف خلية عصبية (neurones).. وهذا أكثر مما هو موجود في مختلف مراكز الدماغ التحت قشري.. فالدماغ الجوهري و النظام العصبي القلبي هو الذي يربط المعلومة مع العقل، ويخلق بذلك نظام معلوماتي على اتجاهين بين القلب والعقل.. فالإشارات التي يرسلها القلب إلى العقل، تؤثر على العديد من أجزاء ووظائف اللوزة (régions et fonctions de l'amygdale cérébelleuse)، والمهاد (thalamus) واللحاء (cortex)...

الاتصال العصبي الأول يكون بانتقال النبضات العصبية (transmission d'impulsions nerveuses) وقد ثبت أن القلب يرسل أكبر معلومات إلى العقل مما يستقبل منه، ويعتبر العضو الأساسي في الجسد الذي له هذه الخاصية، وهذا من شأنه أن يحرك أفكارا أو أحاسيس في جهة (منطقة) معينة من العقل، وبالتالي يمكن أن في القرار أمورا...

الثاني: أن المعلومة البيوكميائية (L'information biochimique) تكون على طريق الهرمونات (hormones) والناقلات العصبية (neurotransmetteurs).. والمعلوم ان القلب هو المنتج لهرمون (ANF) وهو عامل الناتيروتريك الأذيني (Le facteur natriurétique auriculaire) وهو الذي يضمن التوازن العام في الجسد (homoeostasie)، ومن خصائصه منع خلق هرمون القلق، ويعمل على تحرير الأكسيتوسين (ocytocine) والتي تعرف بهرمون الحب..

الاتصال الثالث: هو البيوكيميائي الذي يكون بواسطة موجات الضغط (ondes de pression) وهذا واضح في نبضات القلب التي تصل إلى المخ وإلى سائر أعضاء الجسد..

الاتصال الرابع: هو طاقي (énergétique)، فالحقل المغناطيسي الكهربائي للقلب هو الأقوى على مستوى جميع أعضاء الجسم، ويقدر انه أقوى ب 5000 مرة على العقل، ولوحظ أنه يتغير حسب الأحاسيس... .

وهذا يوصلنا إلى أن عقل القلب هو الذي يتولى تحليل المعلومة أولا، ومن ثم تمر إلى العقل (المخ) وليس كما يقول الديكارتيون وغيرهم من الماديين، أن العقل هو الأساس في كل حضارة ورقي وتمدن (وعليه بنيت الثقافة الغربية، وتبعها في ذلك مثقفونا...) وقد أصبح الكلام العلمي حاليا على الذكاء الإحساسي (l’intelligence émotionnelle) أو الذكاء الحدسي للقلب (l’intelligence intuitive du cœur)...

لعلي أطلت في هذا النور.."نور الضاض" (وهو قول الحق) والواقع أني لم أفه حقه، ويجب البحث فيه والتعمق لأنه أصل في تكوين الإنسان، ومن تأمل آيات القرآن العظيم يجدها تعتني بهذا النوع من التكوين الرباني، الذي يعتمد فيه على منعة الإنسان بالعلم والمعرفة والعمل الصالح والنافع، باستعمال ما يجب استعماله من الأعضاء حسب الأولويات في بناء هذا المخلوق العجيب الذي هو الإنسان.. قال تعالى في سورة المومنون:

بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ قَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ١ ٱلَّذِينَ هُمۡ فِي صَلَاتِهِمۡ خَٰشِعُونَ ٢ وَٱلَّذِينَ هُمۡ عَنِ ٱللَّغۡوِ مُعۡرِضُونَ

٣ وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِلزَّكَوٰةِ فَٰعِلُونَ ٤ وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِفُرُوجِهِمۡ حَٰفِظُونَ ٥ ...

فمن تأمل بداية السورة فإنه يجد أن الأوامر تسير في نفس اتجاه بحثنا.. "فالخشوع في الصلاة في قوله تعالى: (ٱلَّذِينَ هُمۡ فِي صَلَاتِهِمۡ خَٰشِعُونَ) محله القلب، وهو بداية فلاح المؤمن (قَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ).. فإذا سكن القلب صح له أن ينتقل العمل إلى العضو الموالي (وَٱلَّذِينَ هُمۡ عَنِ ٱللَّغۡوِ مُعۡرِضُونَ).. فاللغو محله العقل اللاهي، وإن انضبط العقل على وتيرة القلب المطمئن صح له أن ينقل الخير إلى الخارج (وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِلزَّكَوٰةِ فَٰعِلُونَ) .. فإن صح ذلك من الإنسان صح له أن يبدأ في تربية المزاج والميل (وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِفُرُوجِهِمۡ حَٰفِظُونَ)... (انظر الصورة الموظحة أكثر)

 

فالقرآن الكريم ورد على هذا النوع من التعليمات الربانية، وترتيبها القرآني أولية في الواقع أغفلت، ولو يتبه إليها علماء الإعجاز إلى الآن ولا علماء الدين.. وهي المفتاح في كل تربية وطب وعلم، يقف العالم الغربي الآن أمامه وقوف المتحير الولهان.. أو إن شئت قل: "لأننا لم نعمل به على هذا النحو كان تخلفنا من بين الأمم".. لأن ذلك سر من أسرار القرآن أهملناه ولم نعمل به، ووقعنا في لا يخفى الآن على عاقل...

وأظن في هذا القدر كفاية لمن كان يهمه أمر دينه من الأطباء والمتخصصين والعلماء، أن القلب القلب إذا أصيب في جوهره الإحساسي والسلوكي فإنه ضرره ينعكس على سائر الجسد، وذلك صريح قوله تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ..

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire