الفصل الخامس - في ما يصطلح عليه ب"العلاجات الروحانية"

لا بد من التنبيه إلى أن هذا الاسم دخيل على اللغة ألعربية وربما عليه شبهات تحوم حول الدين وربما ألمعتقد وكأن العلة أو المرض متعلقة بالروح وهذا غلظ لأن العلة قد تكون نفسية أو "فوق نفسية" وهي ما اصطلح عليها ب: "بارابسيكولوجيا" في العلم الحديث، والتي تعني الأمراض التي لا يعرف معناها و الطب المتداول يجهلها، وهذا ما سنتطرق خلال هذا الفصل، فقط يجب إضافة فائدة حول هذا الاسم الذي كثيرا ما أسيء استعماله، وذلك من جراء ترجمات اللغات والثقافات الأخرى التي تخلط بين الروح والنفس (وهذا تطرقنا إليه سابقا، ولا ضير من إضافات لعل المعنى يكتمل) ومعرفة الفرق بينهما فتح بمعارف حقيقية.. وهذه بعضها فيما يلي:

الروح مخلوق رباني عظيم من أمر الله سبحانه.. ولا يوجد أحد في الدنيا (بصرف النظر عن دينه ومعتقده) يجهل مهمة الروح في حياة الإنسان، وأنه إذا مات العبد فإن روحه تكون قد فارقت جسده، فيبلى بعدها ويفنى... أما الخلاف القبلي أو البَعدي فحسب المعتقدات، وضلت المجتمعات طريقها في غير الدين ضلالا بعيدا.. وجاء الإسلام ختاما للديانات السابقة ليزيل كل لبس ويشفي كل علة في الفهم، ونطقت بذلك آيات من كتاب الله العزيز، وبينت له سنة الرسول المصطفى الكريم، إلا أن الموضوع من الوجهة العلمية حضى بغفلة في القرون الأخيرة إلى أن تأثر الفكر الإسلامي بما استنتج في الثقافات والمعتقدات الغيرية... ومنها هذا الاسم "العلاجات الروحانية" أو ما اصطلح عليه ب"الموسيقى الروحية" ويقصدون بها نوعا خاصا من الموسيقى الصوفية أو المؤثرة، والغيريون سموا "المشروبات الروحية" وهي انواع الخمور المركزة... وهكذا فقدت المعايير العلمية للمعرفة حتى يسهل الغوص في خبايا الأمور التي تنفع الناس في العمق..

باختصار شديد، عرّف القرآن الروح بما لا يدع للإنسان في الشك نصيب، ونذكر الآية الدالة وسبب نزولها ليتضح الأمر.. ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بنفر من اليهود فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح؟ وقال بعضهم: لا تسألوه، لا يجيء فيه بشيء تكرهونه، فقال بعضهم: لنسألنه، فقام رجل منهم فقال: يا أبا القاسم، ما الروح؟ فسكت، فقال الراوي: إنه يوحى إليه، فقام، فلما انجلى عنه، فقال: وَيَسۡ‍َٔلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِۖ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنۡ أَمۡرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ إِلَّا قَلِيلٗا.. قال : فقال بعضهم: قد قلنا لكم لا تسألوه..

ومن تأمل الآية الكريمة وأسباب نزولها يستنتج جوابين، إحداهما عام والآخر خاص..

أما العام فهو لبيان سر الروح، وأنه أمر رباني تكفل به الحق سبحانه ولم يترك للإنسان عليه سيطرة ولا للتدخل فيها نصيب..

والخاص فقد كان موجها إلى من منهم كان السؤال عن الروح (ومن كان على شاكلتهم)، ممن لم يحسنوا التعامل مع النفس ومع الجسد في امتثال أوامر الله والإنتهاء عما نهى عنه ( ولذلك خلقوا) وهم يسآلون عن الروح، ولذلك كان التحدي الرباني موجها في قوله تعالى: وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ إِلَّا قَلِيلٗا..

فمن تأمل في الآية الشريفة يجد أن الجواب هنا تنبيهيا أكثر ما هو إخباريا٬ كجواب الرسول الكريم عندما سأله سائل متى الساعة؟.. قال صلى الله عليه وسلم: وماذا أعددت لها؟؟

أما في معنى الروح فقد وردت آيات من كتاب تبين لها وكذلك أحاديث شريفة، لكن بما يليق بتكوينها الرباني وليس بما يليق ببحث الإنسان العادي، ولذلك تجد كل من خاض فيها بغير أسس من العلوم الربانية في تحليله كثير من اللغو، أو الجنوح عن حقائق المعاني بما تشابه عليه من الأحاديث أو الآيات، ومثاله لمن دل على أن الروح هي النفس اعتمادا على قوله تعالى: ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلۡأَنفُسَ حِينَ مَوۡتِهَا وَٱلَّتِيلَمۡ تَمُتۡ فِي مَنَامِهَاۖ فَيُمۡسِكُ ٱلَّتِي قَضَىٰ عَلَيۡهَا ٱلۡمَوۡتَوَيُرۡسِلُ ٱلۡأُخۡرَىٰٓ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمًّىۚ..

وقد سبق التذكير أن الإنسان فيه ثلاث مكونات، أولها: روح سابقة كما ورد ذلك في الأثر الشريف في تفسير آية العهد الأكبر أو آية الميثاق الأعظم أو يوم "ألست بربكم"، من حديث ابن عباس: أخذ الله الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنعمان يوم عرفة فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين يديه ثم كلمهم قبلاً قال: وَإِذۡ أَخَذَ رَبُّكَ مِنۢ بَنِيٓ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمۡ ذُرِّيَّتَهُمۡ وَأَشۡهَدَهُمۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ أَلَسۡتُ بِرَبِّكُمۡۖ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدۡنَآۚ أَن تَقُولُواْ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنۡ هَٰذَا غَٰفِلِينَ...

ثانيا: الجسد، ووضحت الآيات البينات أصلها من صلب ثم نطفة (ماء مهين) ينقل إلى رحم فيصبح علقة ثم مضغة مخلقة وغير مخلقة ثم يخرج طفالا (ويكون على فطرة)...

ثالثا: النفس: وهي انعكاس طبع الروح الفطري واكتساب الجسد الفعلي، فإن وافق الطبع الأصل طبع الجسد بالجمال والحواس بالكمال والجوارح بالامتثال، ووصل الإنسان موصل الرجال من نور رباني يسمى سكون الروح (الربانية) في الذات (المادية) سكون المحبة والرضا والقبول، وهذا النور هو نور حرف الباء، ومن فهمه وعرف كيف يلبسه يسقى بجنة في الدنيا كجنة أبينا آدم عليه السلام..

وهذا يستشف منه أن الروح سجينة الجسد إن أعاقته النفس بغير الاطمئنان، وساكنته إن وافقتها النفس وطاعت لها الجوارح بالإيمان والإحسان.. وعلى قدر تدفق السكون تصبح الخوارق عادات، وتسمو النفس إلى أعلى المقامات، وتكشف الحجب على قدر التدفق والسكون، وتتحرر الروح على قدرها، فلا يحدها حد ولا يجذبها غير الواحد الأحد، فهي موافقة للحق على الدوام، ناظرة إليه نظرة من منه كانت إليه...

فمن فهم هذا (وهو رقيق ودقيق وعميق) لم تلتبس عليه الأمور ولا يدخل في أوحال التوحيد بين الشركيات والإيمانيات، فإن في التوحيد أوحالا، من وقع فيها حال بينه وبين حقيقة الوحدة التي تصوب العين التي ينظر بها و تصحح الأذن التي يسمع بها وتوجه القلب الذي يفقه به، فيرقى العبد من هوى النفس الأمارة على مدارج النفس اللوامة حتى يصل إلى رحاب النفس المطمئنة، فترجع النفس إلى أصلها آمنة مطمئنة، فتدخل في سلك عباد الله الراسخين وتسكن في جنان المعارف لرب العالمين...

ولزيادة البيان والتوضيح حول هذا المخلوق الرباني العظيم (الروح) فإن معنى قوله تعالى: قُلِ ٱلرُّوحُ مِنۡ أَمۡرِ رَبِّي.. أن أنوارها القائمة بها وعليها هي من عند الله، وذلك من نعم الله الأصلية ومدده الرباني الخلقي لهذا الإنسان، ومعنى ذلك أن هذه الأنوار لا تدرك بحيلة مدبرة ولا تنال بعمل اجتهادي، ولكن العمل كل العمل في مجاهدة النفس للرجوع إليها، فهي راسخة في الإنسان رسوخ الروح في الحي، ولا تتم الدلالة عليه إلا بوحي من الله وعلى يد أنبيائه ورسله، فإذا قال الرسول الكريم: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.. فإن ذلك يدل على أن الإنسان يمكن باجتهاده البشري أن ينتقي الخلق الحسن لضرورة العشرة والمصارفة واحترام حقوق الغير، ولكن هناك ما هو أكبر من ذلك، هو إتمام جمال وكمال كل خلق، فقد يحسن الخلق عند زيد ولا يحسن عند عمر وهكذا، ولكن النبوة جاءت لتتمم مكارم الأخلاق كلها وبدون استثناء، وعلى الخصوص أنوار "الروح" فإن لها في الرسوخ أمر عجيب وفي سر الانتقال أعجب، وهي كما يلي:

الألف: لها نور الامتثال لأمر الله تعالى..

واللام لها العلم الكامل غيبا وشهادة..

الراء: لها من الأنوار حسن التجاوز، وهنا تبدأ أنوار الروح الأصلية، وأصل النور هو اليقين في الله حيث لا يسكن العبد لشيء سواه، فلا يفرحه الحصول على ما يزول، ولا يحزنه زوال ما لا يثبت، بل يتجاوز الأحوال ليقينه بمغيرها ومبدلها لحكمته فيها، ويقينه في أن المعطي هو المانع، وأن الخافظ هو الرافع وأن الباسط هو القابض... وهو هو هو.. فلا يأتي منه سبحانه إلا كل جميل وكريم وسليم...

الواو: لها من الأنوار الموت في الحياة، ومعناها ألا يسكن العبد لها ولا يعمل إليها، بل يسكن لخالقها ويعمل فيها بما أجراه قضاء الأعمال الربانية فيها.. والموت فيها المقصود منه أن يكون العبد كالميت في طلب الأجر عليها، فلا يحيى فيها إلا بالله (باتباع أوامره واجتناب ما عنه نهاه) ولله (لا يطلب الأجر على شيء إنما أجره على الله) وفي الله (يكون حيا لا لشيء سواه)... هذا بعض من مقصود هذا النور...

الحاء: ولها من الأنوار الرحمة الكاملة، وهي مقاصد الأنوار كلها ومصب الأعمال برمتها، او بمعنى آخر: فإن هذه الأنوار الأربعة الأولى التي جبلت عليها الروح إنما لتصل بالعبد إلى بسط الرحمة وبسق أغصانها في النفس والجسد، ثم بعد ذلك إلى ما شاء الله في المحيط والجوار والدائرة، فتتلاقح الرحمات وتعم البركات، فإذا كانت الخلقة أصل المدد، فالرحمة عين المدد قال تعالى: وَرَحۡمَتِيوَسِعَتۡ كُلَّ شَيۡءٖۚ.. وقال صلى الله عليه وسلم: إن الله لما قضى الخلق، كتب عنده فوق عرشه : إن رحمتي سبقت غضبي.. وهو صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة والنعمة المزجاة قال تعالى: وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ... .

هذا باختصار شديد قوام الروح، أما مقامه أو حرفه على الأنوار النبوية الشريفة فهو سبعة: منها خمسة مددية: الطهارة والتمييز والبصيرة وعدم الغفلة والذوق للأنوار، ومنها اثنان إمدادية وهي طبيعة الروح الساكنة في الجسد وهي: قوة السريان والإحساس بمؤلمات الأجرام...

أما من تأمل المكونات النورانية لحرف"الروح" فإنه يجد أنواره شملت بحكمة أنوار الحروف السبعة، فالألف من حروف القبض واللام من حروف الرسالة، والراء من حروف البسط، والواو من الرسالة والحاء من النبوة.. وهذه الأنوار الثلاثة إذا أدخلت على الآدمي (الآدمية) أهلته للدخول في حرف العلم وأنواره، ووصل بها إلى سكون الروح في الذات سكون المحبة والرضى والقبول... وهذه الأنوار السبعة في الروح بتمامها وكمالها (فافهم)..

لعلي أطلت (وموضوع الروح أهم بكثير مما ذكر، وهو مبسط أكثر في حرف الباء من الجزء الثاني من انوار الحروف فوق ما هو مألوف لمن أراده).. أما موضوعنا في "الأمراض الروحانية" فلا وجود لها البتة...

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire