أصوات تحت سمعية:

كما أن هناك أصوات تحت سمعية (دون السمعية) (infrasons) وهي التي تقل على 20 هرتز، ولا تستطيع الأذن البشرية أن تلتقطها، وأهم مصادرها هي الحركات الاهتزازاية والانزلاقات لطبقات القشرة الأرضية وما ينتج عنها من زلازل وبراكين، وهي التي تسمعها بعض الحيوانات فتحس بالزلزال قبل حدوثه، وهي التقنية التي يستخدمها راصدوا الزلازل ومتتبعوا أنشطة البراكين... فإذا كان أقل من 7 هرتز فإنه يفتت أعضاء الإنسان الداخلية...

فإذا تأملنا آيات الأخذ في الأمم الخوالي فإننا تشخيصاتها في غاية من الدقة، وفي بعض الأحيان نجد للأخذ في الأمة الواحدة أكثر من وصف، وفي كل آية تجد تعليل الفعل مطابق لصفة الأخذ، وهذا ما نود فتح البحث فيه، كابتداء بالنسبة للباحثين في الإعجاز القرآني في العلوم لكي لا أقول الإعجاز العلمي في القرآن، ثم نأمل وبكل قوة أن تدخل هذه الآيات في البحث العلمي الفيزيائي وبعده في علم الاجتماع أو ما يمكن أن يسمى علم الحضارة أو علم الإنسان...

فإذا بحثنا في الآية الأولى نجد في عذاب قوم صالح لما عقروا الناقة قوله تعالى: إنَّآ أَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ صَيۡحَةٗ وَٰحِدَةٗ فَكَانُواْ كَهَشِيمِ ٱلۡمُحۡتَظِرِ.. فالتشخيص هنا دقيق، وهي كانت صيحة واحدة، والنتيجة أصبح الناس من جرائها كالهشيم المحتظر، يعني أن الأجساد تمزقت كالهشيم وتكومت بفعل قوة الصيحة القوية... وإذا تأملنا ما سبق من الآية الكريمة لنرى نوع الجريمة التي ترتب عليها هذا الحكم الرباني فإننا نجد قوله تعالى: وَنَبِّئۡهُمۡ أَنَّ ٱلۡمَآءَ قِسۡمَةُۢ بَيۡنَهُمۡۖ كُلُّ شِرۡبٖ مُّحۡتَضَرٞ ٢٨ فَنَادَوۡاْ صَاحِبَهُمۡ فَتَعَاطَىٰ فَعَقَرَ.. والغائص في الحيثيات والقرائن أن الآية تعني ملابستان اثنان، الأولى: أنه تم اتفاق أن الماء سيكون قسمة عادلة بينهم، فلم يلتزموا بالتعهد، الثانية باطنة في الجملة الثانية من الآية: فنادوا صاحبهم (كان لهم زعيم شر) فتعاطى (القسمة بالباطل) وعقر الناقة.. فالمفاذ من المعنى أنهم كان لهم اتفاق مسبق، وكانت لهم زعامة في ذلك تعلمهم كيف يعصى الله ورسوله وكيف يستخف بالعهود والمواثيق... قال تعالى في آية أخرى: فَعَقَرُوهَا فَأَصۡبَحُواْ نَٰدِمِينَ.. وفي آية أخرى قال تعالى: فَعَقَرُوهَا(بكفرهم) فَقَالَ (لهم بني الله صالح) تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمۡ ثَلَٰثَةَ أَيَّامٖۖ (فكذبوه بما قال فقال لهم:) ذَٰلِكَ وَعۡدٌ غَيۡرُ مَكۡذُوبٖ...

وجاءت في آية أخرى متعلق بأخذ قوم صالح بصيغة قوله تعالى: فَأَخَذَتۡهُمُ ٱلرَّجۡفَةُ فَأَصۡبَحُواْ فِي دَارِهِمۡ جَٰثِمِينَ .. فجاءت هنا الرجفة (وهي غير الصيحة، فالرجفة تأتي من الأصوات الدون صوتية والصيحة من فوق الصوتية كما سبق أن ذكرنا).. أما العلة فظاهرة فيما سبق من الآية: فَعَقَرُواْ ٱلنَّاقَةَ وَعَتَوۡاْ عَنۡ أَمۡرِ رَبِّهِمۡ وَقَالُواْ يَٰصَٰلِحُ ٱئۡتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ.. إذن هنا هو تحدي الله ورسوله هو الذي أوجب الرجفة..

وجاءت الرجفة كذلك في سياق الحكم على قوم شعيب قال تعالى: وَقَالَ ٱلۡمَلَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوۡمِهِۦ لَئِنِ ٱتَّبَعۡتُمۡ شُعَيۡبًا إِنَّكُمۡ إِذٗا لَّخَٰسِرُونَ (فهذه دلالة التكذيب والدعاية والترويج للكذب على حساب الحق) فَأَخَذَتۡهُمُ ٱلرَّجۡفَةُ فَأَصۡبَحُواْ فِي دَارِهِمۡ جَٰثِمِينَ (وهذا نوع الأخذ الموافق والمطابق).. والدليل على أن الأخذ حق وعدل هو دعاء نبي الله شعيبا فيما سبق من الآية: رَبَّنَا ٱفۡتَحۡ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَ قَوۡمِنَا بِٱلۡحَقِّ وَأَنتَ خَيۡرُ ٱلۡفَٰتِحِينَ.. ولذلك قال تعالى في مستهل الآية التي بدأنا منها: فَكُلًّا أَخَذۡنَا بِذَنۢبِهِۦۖ...

وفي حق شعيب كذلك جاءت الصيحة من قوله تعالى: وَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا نَجَّيۡنَا شُعَيۡبٗا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ بِرَحۡمَةٖ مِّنَّا وَأَخَذَتِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيۡحَةُ فَأَصۡبَحُواْ فِي دِيَٰرِهِمۡ جَٰثِمِينَ.. ومن بحث في ما سبق من الآية يجد حوالي عشر آيات كلها تبين ملابسات الأفعال الضالة وقرائنها في قوم شعيب من قوله تعالى: وَإِلَىٰ مَدۡيَنَ أَخَاهُمۡ شُعَيۡبٗا.. إلى الآية 95 من سورة هود.. وملخصها مسيرة نبي مع أمته الضالة التي كانت تنقص المكيال والميزان وتبخس الناس أشياءهم ويفسدون في الأرض ويكفرون بالله... فكان شعارهم النهائي مع نبي الله من قوله تعالى: قَالُواْ يَٰشُعَيۡبُ مَا نَفۡقَهُ كَثِيرٗا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَىٰكَ فِينَا ضَعِيفٗاۖ وَلَوۡلَا رَهۡطُكَ لَرَجَمۡنَٰكَۖ وَمَآ أَنتَ عَلَيۡنَا بِعَزِيزٖ.. فهذا إذن الكفر المبني على القوة المقتبسة من حقوق الناس، ثم الإصرار على المنهج الهدام لقواعد الحياة الكريمة وحقول الناس... وهذا اعتبار مادي محض واندماج بالكلية فيما يتراءى للفاعل أنه قوة مبنية على ذكاء مادي وحنكة اكتساب وتسييج دهاء (ولا أراه بعيدا كثيرا عن منطق بعض الماديين في زماننا)...

فباختصار شديد، الرجفة كانت تقابل العناد النهائي الذي يرتجى برؤه، والصيحة تقابل من تحدى الله ورسوله بالقول والفعل والحال...

ثم نزيد في سياق الآية الأصل في البحث من قوله تعالى: فَكُلًّا أَخَذۡنَا بِذَنۢبِهِۦۖ.. فنجد الأخذ الموالي وهو الثالث على الترتيب القرآني قال فيه سبحانه: وَمِنۡهُم مَّنۡ خَسَفۡنَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ...

الخسف هو نسف الأرض من الأسفل تحت مكان معين قليل أو كثير، وقد أصبحنا نسمع به في وسائل الإعلام في مختلف دول العالم الغربي.. يذكر الجيولوجيون له أسبابا، كما يذكرونها في الزلازل والبراكين وفي احوال الطقس... ولكن حالة الخسف جاءت تهديدا من العزيز الجليل في كثير من الآيات في حق من يمكر السيئات قال تعالى: أَفَأَمِنَ ٱلَّذِينَ مَكَرُواْ ٱلسَّيِّ‍َٔاتِ أَن يَخۡسِفَ ٱللَّهُ بِهِمُ ٱلۡأَرۡضَ أَوۡ يَأۡتِيَهُمُ ٱلۡعَذَابُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَشۡعُرُونَ .. والذين يرون الإعجاز فيما بين أيديهم (مما عرفوا) وما خلفهم (مما غاب عنهم أو ما جهلوه) وفي السماء (التي تضلهم) والأرض (التي تقلهم) ولم يعتبروا.. يقول تعالى : أَفَلَمۡ يَرَوۡاْ إِلَىٰ مَا بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِۚ إِن نَّشَأۡ نَخۡسِفۡ بِهِمُ ٱلۡأَرۡضَ أَوۡ نُسۡقِطۡ عَلَيۡهِمۡ كِسَفٗا مِّنَ ٱلسَّمَآءِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّكُلِّ عَبۡدٖ مُّنِيبٖ ...

وجاءت آية قارون من كتاب الله مجيبة على الأخذ بالخسف وملابساته كلها لعل المؤمن يتعض ويأخذ إلى ربه سبيلا يقيه من شر نفسه، وهذه القصة ننتشي منها عبق المعاني ونقيس منها ألطف المقاسات في الحجج والدلالات قال تعالى: .. ..

إِنَّ قَٰرُونَ كَانَ مِن قَوۡمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيۡهِمۡۖ ..(كان مبلغا من وحي نبي الله موسى، لكنه بغي بطغياته على الجميع).. وَءَاتَيۡنَٰهُ مِنَ ٱلۡكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ لَتَنُوٓأُ بِٱلۡعُصۡبَةِ أُوْلِي ٱلۡقُوَّةِ..(وهذا سبب بغيه وطغيانه، وهو الكسب الفاحش) إِذۡ قَالَ لَهُۥ قَوۡمُهُۥ لَا تَفۡرَحۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَرِحِينَ ..(الفرح بالنفس كفر وبعد، والفرح بالله طاعة وقرب) وَٱبۡتَغِ فِيمَآ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡيَاۖ .. (لتكن متعتك في الدنيا الفانية شق طريق إلى الآخرة الباقية)وَأَحۡسِن كَمَآ أَحۡسَنَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ ..(أحسن يزدك الله إحسانا)وَلَا تَبۡغِ ٱلۡفَسَادَ فِي ٱلۡأَرۡضِۖ..(وإياك أن تقابل الإحسان إليك بالإفساد فيه) إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ..(فكبرت نفسه وأعمت بصيرته وأطمت سريرته)، قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُۥ عَلَىٰ عِلۡمٍ عِندِيٓۚ..(فلم ير من نفسه إلا نفسه.. فأنكر وأدبر واستكبر) أَوَ لَمۡ يَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ قَدۡ أَهۡلَكَ مِن قَبۡلِهِۦ مِنَ ٱلۡقُرُونِ مَنۡ هُوَ أَشَدُّ مِنۡهُ قُوَّةٗ وَأَكۡثَرُ جَمۡعٗاۚ ..(وهذا دليل أنه كان مبلغا وكان على علم بالأمم الخوالي) وَلَا يُسۡ‍َٔلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ ..(وجاء وقت الحسم ودقت ساعة الصفر) فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوۡمِهِۦ فِي زِينَتِهِۦۖ..(فافتتن به أهل المظهر) قَالَ ٱلَّذِينَ يُرِيدُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا يَٰلَيۡتَ لَنَا مِثۡلَ مَآ أُوتِيَ قَٰرُونُ إِنَّهُۥ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٖ..(واتعض به أهل الجوهر) وَقَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ وَيۡلَكُمۡ ثَوَابُ ٱللَّهِ خَيۡرٞ لِّمَنۡ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗاۚ وَلَا يُلَقَّىٰهَآ إِلَّا ٱلصَّٰبِرُونَ ..(فحصل ما وجب أن يحصل، واكتمل النصاب الرباني للأخذ) فَخَسَفۡنَا بِهِۦ وَبِدَارِهِ ٱلۡأَرۡضَ..(أمام الأهل المظهر لعلهم يتعضون، وأمام أهل الجوهر جزاء لهم على وعضهم) فَمَا كَانَ لَهُۥ مِن فِئَةٖ يَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُنتَصِرِينَ.. (هذه القصة بإيجاز شديد، لمن أراد أن يعتبر(بالإيمان) أو يختبر(بالعلوم التجريبية بالحجة والبيان)) ...

وإذا أردنا أن نبحث موضوع الخسف على ضوء السنة النبوية نجده ثابتا مما روي أن أم المؤمنين رضي الله عنها قال صلى الله عليه وسلم: يكون في آخر هذه الأمة خسف ومسخ وقذف .. قالت: قلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم، إذا ظهر الخبث.. وفي حديث إذا كثر الخبث... فالخسف هو ما نحن بصدده، والمسخ في زماننا هو أن تمحى ملامح الجمال الرباني (كالابتسامة البريئة والمحيى المشرق والرؤية المنعشة... وتحل محلها ابتسامة زور وطلعة رياء وملامح سمعة ونفاق...) وهذا علم تناوله بعض علماء النفس الغربيين ولكنه عند المسلمين يسمى علم السمات وسبق بعض الكلام عليه... أما القذف فقيدا كان بالأقواس والمنجنيق أما الآن فلا يخفى على أحد، ولا تخلو منه نشرة أخبار...

وروي كذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف .. فقال رجل من المسلمين: يا رسول الله، ومتى ذلك؟ قال: إذا ظهرت المعازف وكثرت القيان وشربت الخمور... (المعازف معروفة والقيان هي المغنيات المتبرجات أو الراقصات، والخمر... ولا أحد يجهل هذا في زماننا...

ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا اتخذ الفيء دولا، والأمانة مغنما، والزكاة مغرما، وتعلم لغير الدين، وأطاع الرجل امرأته وعق أمه، وأدنى صديقه وأقصى أباه، وظهرت الأصوات في المساجد، وساد القبيلة فاسقهم، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل مخافة شره، وظهرت القينات والمعازف، وشربت الخمور، ولعن آخر هذه الأمة أولها، فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء وزلزلة وخسفا ومسخا وقذفا وآيات تتابع كنظام بال قطع سلكه فتتابع... .

هذا دين نعم.. ولكنه نظام حياة كذلك.. واستقرار للبشرية وحقوق للإنسان... فماذا يفعل قانون السير لمن تهور وعرض حياته أو حياة مستعملي الطريق للخطر!!! .. والعمل جار على قدم وساق بميزانيات على الاحتباس الحراري، وقمة المناخ، والمحافظة على البحار والتربة... .

بقي على العلماء (علماء المسلمين العاملين) وعلى الباحثين (الذين يهمهم فعلا حقائق الأمور ودقائقها) أن يبحثوا قليلا فقط فيما منصوص ومسطور ومذكور... صحيح.. لا يجب أن يكون الدين شماعة يعلق عليها كل من أراد أن يبلغ شيئا في نفسه على هواه.. أو أن تذكر الآيات والأحاديث منفردة هكذا، وهي تأتي في الركن الرابع من أركان الدين (وقد سلف أن بيناها ولو بنبذة) والأركان الأساسية التي هي الإسلام والإيمان فيها خلل... هذا تخصص في الدين.. فليُبلَّغ كما هو، وإلا فما بُلغت رسالة رب العالمين ولا أمانة رسوله المصطفى الكريم ..

 

وجاء في العقوبة الرابعة من الآية الموضوع الذي نحن بصدده: وَمِنۡهُم مَّنۡ أَغۡرَقۡنَا...

كذلك هناك موجبات للغرق... والغرق في الآية يكون بالفيضان حتى الموت، إما يكون كليا كما حصل في عهد نبي الله نوح، أو الجزئي إلى أقصى حد كما حصل لفرعون ومن حضر معه في مطاردة نبي الله موسى، وبنيتهما من الفيضانات (او أنواع الطوفان أو اللغرق) انواع وأشكال يجب البحث فيها من خلال استقراء أو اعتماد هتين الحالتين..

أما في حالة الإغراق العامة :

فقصة نوح عليه السلام معروفة.. ولكن أجدني مضطرا إلى بيان أكثر الجوانب الغائبة على عموم الناس، ولعلماء المادة فيها أبواب بحث وتحري وهي كما يلي:

نبي الله نوح.. وهو النبي الرابع من الترتيب الآدمي، بعد نبي الله إدريس الذي رفعه الله مكانا عليا، وابن آدم شيث ثم أبو البشرية آدم على جميع الأنبياء وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام.. (ويسمى أبو الأنبياء) لقدمه من جهة، أو ربما لأنه عانى أطول وقت على أمته قال تعالى: وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ فَلَبِثَ فِيهِمۡ أَلۡفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمۡسِينَ عَامٗا.. (ولعموم الفائدة فإن الأعمار كانت بهذه المقادير ، فعمر أبينا آدم كان ألف سنة كما ورد في رواية الإمام أحمد... ووهب نبي الله داود من ذريته أربعين سنة، وأشهد على ذلك الله ورسوله...).

والمقصود أنه دعا إلى الله في قومه طول لبثه معهم " فَكَذَّبُوهُ "، ولم ييأس نوح من الدعوة بالترغيب والترهيب، ومن الوعد والوعيد، ولم يزدهم ذلك إلا عنادا وإصرار وتكذيبا وتحديا قال تعالى: قَالُواْ يَٰنُوحُ قَدۡ جَٰدَلۡتَنَا فَأَكۡثَرۡتَ جِدَٰلَنَا فَأۡتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ.. ولم ينته نوح عن الدعوة حتى جاء أمر الله أن لا فائدة منهم قال تعالى: وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُۥ لَن يُؤۡمِنَ مِن قَوۡمِكَ إِلَّا مَن قَدۡ ءَامَنَ فَلَا تَبۡتَئِسۡ بِمَا كَانُواْ يَفۡعَلُونَ.. وزاد عنادهم وإصرارهم وتخطوا ذلك إلى التهديد لنبي الله نوح، قال تعالى: قَالُواْ لَئِن لَّمۡ تَنتَهِ يَٰنُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡمَرۡجُومِينَ ١١٦ قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوۡمِي كَذَّبُونِ.. فَٱفۡتَحۡ بَيۡنِي وَبَيۡنَهُمۡ فَتۡحٗا.. وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِيَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ.. فاستجاب العزيز الحكيم له بما يليق بصبر وحكمة نوح عليه السلام، قال تعالى: فَأَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡهِ أَنِ ٱصۡنَعِ ٱلۡفُلۡكَ بِأَعۡيُنِنَا وَوَحۡيِنَا فَإِذَا جَآءَ أَمۡرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ فَٱسۡلُكۡ فِيهَا مِن كُلّٖ زَوۡجَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِ وَأَهۡلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيۡهِ ٱلۡقَوۡلُ مِنۡهُمۡۖ وَلَا تُخَٰطِبۡنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ إِنَّهُم مُّغۡرَقُونَ ..

ولم يكن الشجر موجود بعد، فأوحى الله إليه كيف يزرع الشجر.. حتى كبر، وبدأ النبي الكريم يصنع الفلك في الصحراء قال تعالى: وَيَصۡنَعُ ٱلۡفُلۡكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيۡهِ مَلَأٞ مِّن قَوۡمِهِۦ سَخِرُواْ مِنۡهُۚ قَالَ إِن تَسۡخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسۡخَرُ مِنكُمۡ كَمَا تَسۡخَرُونَ..

وجاء أمر الله " وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ " والمعنى كما قال اللغويون أن العرب تقول وجه الأرض هو التنور فهو معنى مقبول، أما المعنى الأبلغ هو ما قاله باب العلم مكرم الوجه علي، هو الفجر او الصبح، ومن تأمل المعنى السرياني للكلمة يجدها تدل على ذلك، والمعنى بالإجمال: "إذا اتضح الأمر وتبينت المعالم" لجمع الأزواج المطلوبة في السفينة "الفلك"... .

وفتحت أبواب السماء بالماء وفجرت الأرض كلها عيونا قال تعالى: فَفَتَحۡنَآ أَبۡوَٰبَ ٱلسَّمَآءِ بِمَآءٖ مُّنۡهَمِرٖ.. وَفَجَّرۡنَا ٱلۡأَرۡضَ عُيُونٗا فَٱلۡتَقَى ٱلۡمَآءُ عَلَىٰٓ أَمۡرٖ قَدۡ قُدِرَ.. وركب نوح ومن معه من المؤمنين القلائل قال تعالى: وَمَآ ءَامَنَ مَعَهُۥٓ إِلَّا قَلِيلٞ.. وَقَالَ ٱرۡكَبُواْ فِيهَا بِسۡمِ ٱللَّهِ مَجۡرٜىٰهَا وَمُرۡسَىٰهَآۚ إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٞ رَّحِيمٞ .. والتقى الماء (العذب من الأنهار) مع الماء (الأجاج من البحار) شرقا وغربا، قال تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيۡنَٰهُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥ فِي ٱلۡفُلۡكِ وَأَغۡرَقۡنَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِ‍َٔايَٰتِنَآۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَوۡمًا عَمِينَ..

ولما قطع دابر الظالمين المكذبين الكائدين لم يبق للطوفان سبب للوجود، وكان ضمان للمؤمنين السلام والاطمئنان قال تعالى: وَقِيلَ يَٰٓأَرۡضُ ٱبۡلَعِي مَآءَكِ(في باطنك وأسكنيها في جوفك) وَيَٰسَمَآءُ أَقۡلِعِي ( فلم يعد لمائك سبب للانهمار) وَغِيضَ ٱلۡمَآءُ وَقُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ وَٱسۡتَوَتۡ(سفينة نوح عليه السلام أو فلكه كما سميت إلحاقا بالبركة وإن كان في الواقع هي ذات ألواح ودسر(وهي المسامير من الخشب أو مثبتات من الحجر...)) عَلَى ٱلۡجُودِيِّۖ وَقِيلَ بُعۡدٗا لِّلۡقَوۡمِ ٱلظَّٰلِمِينَ.. على جبل "الجودي" كما ذكر بعض المفسرين، الموجود في الأرض التركية حاليا وهو بين المثلث الحدودي التركي الأرميني الإيراني.. وقيل المثلث التركي السوري العراقي...

وتضاربت أقوال المفسرين والمؤرخين وغير المسلمين في اسم "الجودي" وموقعه (وهناك أبحاث دلت على موضع سفينة نوح المتحجرة...) والأمر لا يحتاج إلى كل هذا الغوص اللا مبرر.. ف"الجودي" هي كلمة قديمة، معناها بالسرياني، فالجيم المضمومة تدل على المكان النافع للناس (والظاهر أن الآية ما كان لها أن تعتبر غير ما ينفع المؤمنين، وكان إبحارهم طويل وشاق فكانوا في أشد الحاجة للماء والغذاء...) والواو تدل على المتباين في الارتفاع كالجبل.. والدال المكسورة تدل على ما ينفع الذات البشرية ويكون في المتناول.. والياء إشارة إلى الغير الثابت (وهي محطة عبور لقوم نوح عليه السلام حتى يستتب الأمر وينتشر الخير في المعمور بالإيمان والعمل الصالح...) .. أما من نظره من حيث الأنوار القرآنية فإنه ثمرة صبر كما للجيم وموت في الحياة كما للواو و طهارة كما في الدال وخوف من الله منا في الياء... هذا هو المعنى بكل إيجاز... .

قال تعالى: وَلَقَدۡ نَادَىٰنَا نُوحٞ فَلَنِعۡمَ ٱلۡمُجِيبُونَ ٧٥ وَنَجَّيۡنَٰهُ وَأَهۡلَهُۥ مِنَ ٱلۡكَرۡبِ ٱلۡعَظِيمِ ٧٦ وَجَعَلۡنَا ذُرِّيَّتَهُۥ هُمُ ٱلۡبَاقِينَ ٧٧ وَتَرَكۡنَا عَلَيۡهِ فِي ٱلۡأٓخِرِينَ ٧٨ سَلَٰمٌ عَلَىٰ نُوحٖ فِي ٱلۡعَٰلَمِينَ ٧٩ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ..

وجاء مثل آخر في حالة الإغراق الخاصة:

هو مثل "فرعون".. وفي قصة نبي الله موسى (لا أقول من العبر لأن الكلمة مقزمة إلى حد كبير) ولكن أقول أمام قواعد البيانات العلمية (التي كان يجب أن تطرح كأساسات للبحث العلمي) من يوم مولده عليه الصلاة والسلام، وخبر السحرة به، وقذفه في اليوم، ووصوله إلى مقر عدوه وعدو الله، ورجوعه إلى أمه، وكبره في هذا الوسط الجبار، وعناية الله به في كل المراحل... وذكر سيرته قبل نزول الوحي عليه، وبعد نزوله وبعثته فروعون وشد أزره بهارون، والآيات التي عززته وأسرارها وتأثيرها وأصلها... .

وبعد ذلك بِعثته إلى بني إسرائيل ومدى السلوك التي تأصلت منه كل السلوكات المشينة (أو اجتمعت فيه كل الدسائس المشيطنة التي عرفها الإنسان... وهذا موضوع آخر، له ذكر منفرد ودلائل يجب أن تحلل بعدما تسطر في قاموس: "خصال بني إسرائيل كما ورد في محكم التنزيل".. وهي سبعون خصلة ذميمة في السلوك المنحل، وعكسها سبعون خصلة في السلوك القويم، الذي يوافق الحديث النبوي الشريف: الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق... وهي كذلك جوهر البحث في الحديث الشريف: ... تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلهن في النار إلا واحدة، قالوا: وما تلك الفرقة؟ قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي... وهو موضوع في طور الإنجاز، وإن كان سوف يخالف بعض الأقوال (أو "النظريات الدينية") حول "الفرقة الناجية"... أسأل الله فيه التوفيق)..

أما موضوعنا حول فرعون موسى، فإن له من الأهمية ما يوافق وقتنا هذا خصوصا في الأمور العقدية التي تحجبها الماديات المحضة.. أو بلغة أخرى: العقبات المادية التي تعيق القاصدين والسائرين.. ولنعتمد فقط على مادتنا من قوله تعالى: وَمِنۡهُم مَّنۡ أَغۡرَقۡنَا.. كما سلف ذكره في الإغراق الجزئي، أو بلغة أدق: إغراق من استحق الغرق ونجاة من هو دونه..

ومن تفقد سلسلة المعالجات الربانية في قوم موسى فإنه يجد دلالات أخرى من الأمراض والأوبئة، لا يسع الوقت لذكرها بتفصيل، وهذا لا يمنع ذكر بعضها كقوله تعالى: فَأَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمُ ٱلطُّوفَانَ وَٱلۡجَرَادَ وَٱلۡقُمَّلَ وَٱلضَّفَادِعَ وَٱلدَّمَ ءَايَٰتٖ مُّفَصَّلَٰتٖ.. وهذه خمسة أعراض كلها تتعلق بما تنتجه الأراضي الفلاحية (وهذا بعد ما اختارت بنو إسرائيل استبدال الذي هو أدنى (وَإِذۡ قُلۡتُمۡ يَٰمُوسَىٰ لَن نَّصۡبِرَ عَلَىٰ طَعَامٖ وَٰحِدٖ فَٱدۡعُ لَنَا رَبَّكَ يُخۡرِجۡ لَنَا مِمَّا تُنۢبِتُ ٱلۡأَرۡضُ مِنۢ بَقۡلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَاۖ) بالذي كان لها طعاما واحدا وهو هدية من الله وفيه نفع وبركة كل الأطعمة وهي حكمة الله في قوله تعالى: (وَأَنزَلۡنَا عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَنَّ وَٱلسَّلۡوَىٰ) وهنا حكمة بالغة في التعامل مع القدرة الربانية بالرضا والقبول والأخذ والعطاء، فلا مقارنة بين اختاره الله لك وبين ما تختاره أنت بنفسك (والشرح هنا كذلك يطول وليس هذا موضعه) ولكن شواهد الأحكام عندما تلخص فيما يلي:

أن عدم الرضا والقبول بنعمة المن والسلوى، أورثهم عدم القناعة بها، واقتراحهم بدائل لها من القثاء والفم والعدس والبصل (وهو اختيار بالنفس) أورثهم نزول مصر.. وعدم شكرهم على النعمة الجديدة أورثهم الطوفان في الأراضي، وعدم الالتزام بعد رفع الضرر سلط عليهم الجواد، ولما رفع عنهم الجراء وظنوا أنهم نجوا سلط الله عليهم السوس (القمل) فأهلكت حبهم... ثم الضفادع ثم والدم... وهذا كله يلزمه بحث جدي ودراسة معمقة علمية حتى تستبين الأمور وتلحق العلل بمعلولاتها (وإن جاد الكريم هكذا سيكون سياق البحث في علل بني إسرائل كما ورد في القرآن) وهذا جزء لا يتجزأ من البحث في نظرية تأثير جناح الفراشة أو نظرية الفوضى كما تسمى، وكذلك في الفيزياء الكموم وأسرار التغيرات المناخية... .

أما إذا رجعنا إلى ما كان خاتمة ذلك في موجبات الغرق فهو الوقوف على قرارهم النهائي على عدم الإيمان وذلك صريح في قوله تعالى: وَقَالُواْ مَهۡمَا تَأۡتِنَا بِهِۦمِنۡ ءَايَةٖ لِّتَسۡحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحۡنُ لَكَ بِمُؤۡمِنِينَ.. رغم ما رأوا من عبر وآيات عظمى، ورغم ما عانى وقاسى معهم نبي الله موسى، وليس هذا فحسب ولكنهم قرروا إنهاء دعوته بأي ثمن، وجاء وقت الحسم فدعا عليهم موسى في قوله تعالى: فَدَعَا رَبَّهُۥٓ أَنَّ هَٰٓؤُلَآءِ قَوۡمٞ مُّجۡرِمُونَ .. فكانت التعليمات الربانية: وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰٓ أَنۡ أَسۡرِ بِعِبَادِيٓ إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ.. فحانت ساعة الحسم: فَأَتۡبَعُوهُم مُّشۡرِقِينَ ٦٠ فَلَمَّا تَرَٰٓءَا ٱلۡجَمۡعَانِ قَالَ أَصۡحَٰبُ مُوسَىٰٓ إِنَّا لَمُدۡرَكُونَ ٦١ قَالَ كَلَّآۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهۡدِينِ ٦٢ فَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰٓ أَنِ ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡبَحۡرَۖ فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرۡقٖ كَٱلطَّوۡدِ ٱلۡعَظِيمِ ٦٣ وَأَزۡلَفۡنَا ثَمَّ ٱلۡأٓخَرِينَ ٦٤ وَأَنجَيۡنَا مُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُۥٓ أَجۡمَعِينَ٦٥ ثُمَّ أَغۡرَقۡنَا ٱلۡأٓخَرِينَ ٦٦ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗۖ...

فما هي أبعاد الآية في قوله تعالى: إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ؟؟.. فإن لم تكن دراسة في هذه الحيثيات، وهذه الملابسات التي أوقعت بني إسرائيل في مثل هذا الأوضاع وقوم فرعون في مثل هذا الطغيان، فلماذا دققت الآيات العظيمة من كتاب الله في ذكرها وبينت في ترتيبها في كثير من المواقع، وفي كل مرة تدل على جانب مهم من العوائق يجب تلافيه ومعه الحل الأمثل لحل كل معضلة يجب الالتفاف به (وهذا النوع من البحث في القصص القرآني الذي يعوزنا في وقت استنفذت فيه كل الاجتهادات الفردية، وتتوقف عليه كل النتائج العلمية والمادية التي تعتني بصلاح الإنسان ونفعه)..

هذا القصص القرآني الذي هو أكبر ما تاريخ يحكى، أو مواعض تذكر ولا سلوة للنبي الكريم (كما يدعي البعض)... ولكنها قوانين ربانية يجب دراستها واستخراج النصوص المطابقة لمقتضيات الأقوال والأعمال والأحوال، وموازين تضبطُ عليها سلاليم الصحة والعلل بين الكائنات والمكونات، وهذا القطب "الإنسان" الذي هو محور بصلاحه تدور الخيرات حوله وبمروقه على الجادة تتفلت وتتضارب فيما بينها (هذا هو البيت المقصود من خلال هذا البحث البسيط)..

لعلي أطلت بعض الشيء، والواقع أنه أقل ما يمكن أن يستدل به على حِكم ربانية دقيقة بنيت عليها أطوار الكائنات وتغلغلت بلطيف صنع الله في بطائن المكونات، بعضها جزء من هذا الكون، وكلها متوقف على هذا الجزيء، هفا به ابن آدم أو خطر منه على بال، فإن له تأثيرا على قدره، وهذا القدر يتنامى بإسناده، وهذه البعضية تؤثر على الكلية إن كانت مسنودة بجنسها ولم تجد من يعارضها بعكسها.. وهكذا تأصلت حكمة موازين التأثير بغلبة الصلاح عليها أو الفساد فيها، فإذا قالت أم المؤمنين: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون قال صلى الله عليه وسلم : نعم إذا كثر الخبث.. فجواب الرسول الكريم يؤصل لمراقبة موازين الصلاح في السنن الكونية، وسؤال أم المؤمنين في غاية الدقة، وهي تشير رضي الله عنها إلى البعضية الصالحة وكيفية صيانتها من الفساد والهلاك... والسؤال عام وشامل في المصالح الكلية كما هو مفيد في البعضية، ابتداء من النفس بين صحتها وسقمها إلى الأرض ومحيطها والجو وتقلباته والفلك ومجراته... .

وانا أود أن أقرب علماء المادة من مكوناتها الأصلية التي تعتبر جوهر وجودها وموجه تأثيراتها، وكذلك إلى علماء الدين حتى يفهم أن لا مادية في الدين تعتمد ولا إلى أي عقلية مجردة تستند... فبين الفعل ونية الفعل تأثير يجب أن يركبه الفاعل ليرقى به إلى أبعاد الأعمال ونتاج الأحوال.. فإذا قال العزيز الجليل: وَقُلِ ٱعۡمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۖ.. فهذا دليل على للأعمال أبعادا ثلاثة:

أولها رباني، لأنه الأصل في الإنشاء والإهداء (فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ)..

ثانيها: رسول الله.. باعتباره سلم العمل ومقياسه وتجربته على المستوى البشري (وَرَسُولُهُۥ)..

البعد الثالث: وهو بعد المؤمنين الذين ينتفعون بصالح الأعمال في تأثيراتهم ويتضررون بفسادها (وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۖ..)...

وهذه الآية العظيمة لا كناية فيها ولا مجاز، ولكنها قاعدة علمية، على المسلمين اختبار الأعمال بها بدل التخاصم بالآيات البينة والتراشق بالأحاديث الطاهرة، واختصاره: أي عمل ديني ورد ذكره في كتاب الله، يجب أن يكون مبينا بيانا واضحا وصريحا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا وقع العزم عليه والتوكل على الله فيه فلتراقب نتائجه على أرضية المؤمنين، فإن ظهر سره وأشرق نوره فهو عمل صالح وإلا فليراجع النص القرآني فإن في استنباطه خلل، أو الحديث النبوي فإن في فهمه علل.. وإلا فكيف يفهم قوله تعالى: إِلَيۡهِ يَصۡعَدُ ٱلۡكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلۡعَمَلُ ٱلصَّٰلِحُ يَرۡفَعُهُۥ؟.. فكيف تشخص آلية الرفع العملية لطبيعة صعود الكلم الطيب؟؟ وما هي دلائل الكلم الطيب المرخص للصعود وليس للنزول، وما هي علامات العمل الصالح المؤهل للرفع وليس للإقصاء والأفول؟؟ وكيف يكون الحكم عليهما وعلى أي أساس يحصل التمييز بينهما، والحق سبحانه يقول: لِيَمِيزَ ٱللَّهُ ٱلۡخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ وَيَجۡعَلَ ٱلۡخَبِيثَ بَعۡضَهُۥ عَلَىٰ بَعۡضٖ فَيَرۡكُمَهُۥ جَمِيعٗا فَيَجۡعَلَهُۥ فِي جَهَنَّمَۚ... .

فطبيعة الطيب التنامي والتعالي والإثمار والازدهار، بينما طبيعة الخبيث التراكم والتصادم والضرر والإضرار، فإذا رأيت في الطبيعة إحراقا أو إغراقا... أو عند الناس أعراضا وأمراضا... فلأن تلك طبيعة الخبث والخبائث.. والإنقاذ فيها رجوع عن مسبباتها وتعلق بمنجياتها، وإلا كيف يفهم قول نبي الله نوح من قوله تعالى: فَقُلۡتُ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ إِنَّهُۥ كَانَ غَفَّارٗا.. يُرۡسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيۡكُم مِّدۡرَارٗا.. وَيُمۡدِدۡكُم بِأَمۡوَٰلٖ وَبَنِينَ وَيَجۡعَل لَّكُمۡ جَنَّٰتٖ وَيَجۡعَل لَّكُمۡ َنۡهَٰرٗا.. .

فما علاقة اقتراف الذنوب بالجذب وعدم الانتفاع بالمطر، وما علاقة الاستغفار باستجلاب الأمطار ووجود الثمار ؟؟ وما علاقة الذنوب والمعاصي بإزالة البركة في الأموال والأولاد والجنات والأنهار، والعكس يكون مع التوبة والاستغفار؟؟؟ والأمثلة كثيرة يجب تعدادها والبحث في خباياها حتى يسهل على الباحثين العلميين القصد المباشر في تقريب النفع من الإنسان كما يسره الله ببيانه في كتابه العظيم وفي سنة رسوله المصطفى الكريم..

وكل هذا له علاقة بحياة الإنسان وصحته وعافيته أو علته وسقمه، فكيف ينجو إنسان وهو يعيش في بيئة سقيمة، وكيف لا ينجو وهو في محيطات سليمة؟؟.. تعجبت الشياطين ممن يطلب النجاة من العلل، وهو منغمس في الموبقات والزلل!!.. واستحيت الملائكة ممن لا يسأل رفع البلاء، ليقينه أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء...

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire