أوجه التحريم من الوجهة الدينية:

ذكرنا سابقا الفرق بين الإحسان والفساد أو الإفساد، وملخصه في موضوعنا، أن الإحسان: هو تحسين السلوك الإنساني بالعمل الصالح مع حسن ما خلقه الله وأنشأه، باتباع الشرائع المستقيمة والأبحاث المستنيرة.. قال تعالى: إِنۡ أَحۡسَنتُمۡ أَحۡسَنتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡۖ وَإِنۡ أَسَأۡتُمۡ فَلَهَاۚ..

أما الفساد فهو الإخلال بحسن ما أبدعه الله في خلقه سواء كان إنسان أو حيوانا أو نباتا أو جمادا... فما خلقته يد القدرة بحكمة بالغة، لا يمكن أن يكون إلا على ذلك الوجه، (وكما يقال: "ليس في الإمكان أبدع مما كان").. ولا يؤدي ما خلق من أجله إلا بأصل خلقته... هذا تكلمنا عليه في موضوع: جنة أبينا آدم عليه السلام، وبينا فيه وجها من فطرة الخلق الإنساني وما يحتاجه بفضل رباني...

فالأرض أصلها صالح وطبعها نافع، وما نبت فيها بحكمة.. ولحكمة.. فمن زاد حكمة العقل على حكمة الإيمان إلى حكمة ما خلق الله وما أنبت للإنسان، فهو محسن، ومن أساء فهم الحكمة وعمل بمقتضى المصلحة عميت بصيرته وطمست سريرته، وأساء إلى حكمة الله وإلى خلق الله وأفسد... قال تعالى: وَلَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ بَعۡدَ إِصۡلَٰحِهَا وَٱدۡعُوهُ خَوۡفٗا وَطَمَعًاۚ
إِنَّ رَحۡمَتَ ٱللَّهِ قَرِيبٞ مِّنَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ
.. وقال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ لَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ قَالُوٓاْ إِنَّمَا نَحۡنُ مُصۡلِحُونَ ١١ أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلۡمُفۡسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشۡعُرُونَ ١٢...

أما وجه التحريم في ذلك فهو السير بعكس مقتضى الحكمة والعلم (وهو الخرق والجهل)، وذلك يُبدل الصلاح إلى فساد والنفع إلى ضرر... وهذا هو عمل الشيطان المحض.. وقد ورد بيان خططه المدمرة وشطنه الماكرة في كتاب الله على قدر التواء خططه وشطنه، والعمل على بيانها كلها من فقه الدين، ومن المعلومات من الدين بالضرورة، فمن لم يعرف عدوه وقع في شراكه، ومن عرفه يحتمل (فقط) ألا يقع...

وفي هذا الباب يقول الحق سبحانه وتعالى في وصف اللعين وتابعيه وصلة التبعية بينهم: وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنۡ عِبَادِكَ نَصِيبٗا مَّفۡرُوضٗا ١١٨ وَلَأُضِلَّنَّهُمۡ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمۡ وَلَأٓمُرَنَّهُمۡ فَلَيُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ وَلَأٓمُرَنَّهُمۡ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلۡقَ ٱللَّهِۚ وَمَن يَتَّخِذِ ٱلشَّيۡطَٰنَ وَلِيّٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِ فَقَدۡ خَسِرَ خُسۡرَانٗا مُّبِينٗا ١١٩ يَعِدُهُمۡ وَيُمَنِّيهِمۡۖ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ إِلَّا غُرُورًا ..

ومن تأمل في الآية الكريمة يجد فيما يهمنا من البحث، أن الشيطان له زوجية الفعل فيمن كان له فيه نصيب، وهذه الزوجية في فعلين هما: الإضلال والأماني (وَلَأُضِلَّنَّهُمۡ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمۡ) وكأنك تقول أن من وقع في الضلال يدخل في الإضلال، ومن لبسهما دخل في الأماني فلا تنتهي ضلالته وإضلاله...

ومن وقع في شراك الضلال والإضلال والأماني الضالة، زج به الشيطان في فعل موالي ومباشر، هو امتثال أمر الشيطان في فعلين معاديين لطبيعة الفطرة و سلامة الخلقة، ويعبر عنهما لسان الحق: (وَلَأٓمُرَنَّهُمۡ فَلَيُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ وَلَأٓمُرَنَّهُمۡ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلۡقَ ٱللَّهِۚ) ...

فالأمر الشيطاني الأول: (وَلَأٓمُرَنَّهُمۡ فَلَيُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ) نتاج الإضلال الأول (وَلَأُضِلَّنَّهُمۡ).. والأمر الشيطاني الثاني: (وَلَأٓمُرَنَّهُمۡ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلۡقَ ٱللَّهِۚ) نتاج للأماني (وَلَأُمَنِّيَنَّهُمۡ).. وفي كل كلمة من الكلام الرباني من الأنوار ما لا تحصره الأقلام ولا تحيط به الأفهام، لو وجد همما وعزائم...

أما الأمر الأول: فهو تبتيك آذان الأنعام.. والتبتيك كما ورد في القواميس وكذلك في كتب التفسير هو تقطيع بعض آذان الأنعام أو شقها بمواصفات معينة ولأغراض كذلك معينة.. وكلها لها علاقة ضيقة بالشيطان وعليه كان تحريمها كما ورد في قوله تعالى: مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِنۢ بَحِيرَةٖ وَلَا سَآئِبَةٖ وَلَا وَصِيلَةٖ وَلَا حَامٖ وَلَٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۖ وَأَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ ١٠٣.. وشرح هذا متوفر في كتب التفسير كما ذكر.. لكن الذي لم يركز عليه علماء التفسير، هو صلة الشيطان بهذه الأنعام، وهذا المهم.. لأن الأنعام التي كانت تبتك آذانها هي في الواقع تهدى إلى الشيطان أو إلى الآلهة وكلاهما واحد، فكانت ''تُسكن بمن يملكها أو بمواشيهم''، وبها تقوم شركة مع الإنس في ذلك، وهي نوع من المشاركة في المال.. وهذه الأفعال لا تزال قائمة إلى اليوم ولو كانت بأوجه أخر، والكسابون يعرفون هذا النوع من المواشي ويسمونها "المجنونة" ولها علامة معينة في الأعين ولها طبيعة مغايرة عن القطيع... وأنا أذكر هذا (وإن كان فيه صعوبة فهم على غير المتخصصين)، لكن طرحه ضروري للنظر في طبيعة لحم هذه الأنعام، ومدى رتبتها بين الحلال والحرام... فهل يكون قياسها في السلامة على أضاحي العيد، أو تجزي فيها التسمية؟؟... وإن كنت أميل إلى أن من كانت بها شبهة من ذلك، فلتتوفر فيها شروط أضحية العيد، وهي أن تكون تامَّة الجسم ليست عوراء، ولا عرجاء، ولا مريضة، ولا مقطوعة الأذن أو الإلية..

أما الوجه الجديد في تبتيك أذان الأنعام فلم يعد خافيا على أحد، وهو موضوعنا في هذا البحث، وهو العبث بالشفرة الوراثية للمواشي أو بلغة أدق: تغيير خلق الله في الهندسة الوراثية لأصل الحيوان، بأمل مادي أو تفوق شطني مالت إليه نفوس شيطانية وغيبت فيه عقول المصالح الدولية.. ولعل الآية هنا اكتملت بكل أطرافها: (وَلَأٓمُرَنَّهُمۡ فَلَيُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ وَلَأٓمُرَنَّهُمۡ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلۡقَ ٱللَّهِۚ) ... فنفذت أوامر الشيطان.. وبتكت ءاذان الأنعام... وغُيِّر خلق الله...

تبتيك: معناه قطع، ولكن من تأمل الكلمة على اللغة يجد أنها أقرب إلى الثقب منها إلى القطع، و"ءاذان" هي دلالة نورانية ربانية رغم أنها لغة عربية... وأنا لا أستبعد أن تكون لها دلالة الاسم العلمي (ADN) وهو الحمض النووي، ومعرفة هذا أصبح غير مجهول على أحد.. أما معناه النوراني فهو في كلمة "ءاذان" وهو الامتثال للألف ومعرفة اللغات للذال والفرح الكامل للنون... وهذه الخصائص هي التي يتميز بها الحمض النووي، وهو يحتفض على المورثات السابقة وينقلها إلى النشأ الجديد، وإن كانت تتغير بالسلوك تغييرا جديا أحيانا ونسبيا أخرى، لكن التسلك والتفاعل القيمي والأخلاقي والتأقلم السلوكي بدايته الأقوال وحراثته الأفعال وتثبيته الأحوال، هو المغير (أو بلغة أدق: المحسن الفعلي للحمض النووي والشيفرة الوراثية)..

منذ أقل من عقد من الزمن قالت دولة عظمى على لسان رئيسها أنها قررت إنفاق الملايير في النهوض بهذا القطاع خدمة للطب والصناعة والتنمية، وذلك لمحاولة إزالة بعض المورثات في بعض الأمراض عسى أن تخف التكاليف العلاجية... (ووراء البرنامج ما يخجل المرء من ذكره) .. فقلت سبحان الله، لو كان القرار السياسي يبنى على الرأي العلمي لكنا أحسن حالا مع الإمكانات المتوفرة، ولكن البصائر عندما تعمى لا تفقه القلوب ولا تسمع الآذان ولا ترى الأبصار...

لو بحثنا في أصل الشيفرة الوراثية لكان لنا على الأقل تصور للشيفرة الأصل (التي هي شفرة أبينا آدم)، فمن الطبيعي أن تكون شفرة الأصل طبيعية، ولكن طرأ عليها من سلوك طبيعة البشر ما يعيقها، فإن رجع الإنسان إلى نفسه أعيدت برمجتها إلى الأصح، وإن زاد في الغواية تعرقلت مورثات الشفرة الوراثية فسببت لصاحبها الأمراض والأعراض ولسلالتها غالبا نفس المورثات... فلو كان البحث فيما يغير الشفرة سلبا وإيجابا لكان أجزى وأنفع للناس والدول وللطبيعة...

هذا ما يجب البحث فيه، وقد ظهرت أبحاث جانبية تحث على التفكير في الأمر والتركيز عليه، فتستجيب المورثات إلى التغير المأمول، وقد يحصل تغيير حتى على ظاهر الإنسان إن توفق في ذلك... وهذا قديم قدم الدين لكنه لم يعن بانتباه علمائنا ومتخصصينا و له في كتاب الله آيات تدل عليه وعلامات تعرف به، وله في العلم الرباني أصول وضوابط، يسمى "علم السمات" استنادا إلى قوله تعالى: سِيمَاهُمۡ فِي وُجُوهِهِم مِّنۡ أَثَرِ ٱلسُّجُودِۚ.. وقوله تعالى: يَحۡسَبُهُمُ ٱلۡجَاهِلُ أَغۡنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ تَعۡرِفُهُم بِسِيمَٰهُمۡ لَا يَسۡ‍َٔلُونَ ٱلنَّاسَ إِلۡحَافٗاۗ.. وقوله تعالى: يُعۡرَفُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ بِسِيمَٰهُمۡ فَيُؤۡخَذُ بِٱلنَّوَٰصِي وَٱلۡأَقۡدَامِ ١.. فالسمات هي تأثير السلوك وظلال الأفعال وانعكاس الأحوال على باطن الجسد ثم ظاهره...

ومنهم من سماه "علم الشاكلة" ودلالته قوله تعالى: قُلۡ كُلّٞ يَعۡمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِۦ فَرَبُّكُمۡ أَعۡلَمُ بِمَنۡ هُوَ أَهۡدَىٰ سَبِيلٗا ٨٤.. فالشاكلة هي طبيعة الخلق، وفطرة التطبع.. وهذه كلها من علوم القوم يعملون بها، لكنها لم يعن بأبحاث الظاهر من علمائنا ومثقفينا، ومن عرفها يستغني به عن كل التقييمات النفسية التي كثرت أسماؤها وقلت مدلولاتها...

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire