الإيحاء الذاتي (Autosuggestion)

رفع الإيحاء او الإيحاء الذاتي أو التحكم الذاتي (Autosuggestion) وسمي كذلك "طريقة كوي méthode Coué " انتسابا ل"كوي" الذي كتب عنها في سنة 1926 وسماها طريقة ضبط النفس أو التحكم في النفس (maitrise de soi même) وذكر أن ما يحصل للمريض هو استعدادا ذاتي للعلاج، وله حافز في إعانة الدواء حتى لو كان وهماً على التشافي أو الامتثال للشفاء.. ووضعت فيه قواعد نظرية بنيت على تجارب سطحية، أخذ منها المستغلون ما جعلوا منه مادة أخرى للوهم.. والكل على حساب المرضى.. ونحن معهم تبع..

أما ما أهمل أو هُمش "عمدا" في رفع الإيحاء للمريض، هو تشخيص دقيق للفرد من حيث سلوكه الشخصي حتى يتبين مدى علاقة التكوين النفسي للمريض برفع إيحائه في التعافي من المرض أو منعته ووقايه منها.. أو بلغة أدق: مدى استجابة المريض الباطنية للعلاج أو الشفاء.. أو بعبارة طبية: مدى استجابة المريض النفسية أو فوق النفسية للعلاج..

صحيح أن كل مريض له استعداد للعلاج ، وامتثاله أمام الطبيب أو المعالج أكبر دليل على ذلك، لكن تبقى مؤهلات أخرى باطنة لا يتحكم فيها المريض، وهي مدى استجابته الفعلية للشفاء، والتي "ترفع الإيحاء" في المريض سواء بإدرار الدوبامين أو السيروتونين، أو ب"كرامة" أخرى لا تهتدي إليها العقول الطبية المادية والتحليلات المخبرية والمجهرية.. وهذا الاستعداد الذي يقول عنه الكتاب في الطب الذي تصور أو تخيل العلاج والتحسن هو يفتقر إلى تحقيق وتدقيق، وهو إن شئت قلت هو الفرق بين الرجاء الحقيقي والأمنية.. فالرجاء ما قارنه عمل، والعمل القلبي روحه وذروة سنامه، اما الأمنية فهي مجرد تصور لا روح فيها، أما الرجاء الحقيقي فله تأثير فعلي مع صدق صاحبه.. وهذا لا يخفى على أحد، ولا يوجد احد لم ير أو لم يسمع بفعل خرق العادة الطبية التقليدية في شفاء أو علاج أو إصابة...

فالذي نود الخلوص إليه هو ما ذكره بعض الباحثين مثل "د. روشارش" في وصفه للأشخاص الشديدي التأثير بالدواء الوهم (أو بعبارة أصح: الذين يرفع فيهم الإيحاء).. هم الأشخاص الشديدي التأثير، أو المتلهفين أو المهمومين على حد تعبيره.. وهذا في الواقع تشخيص يفتقر إلى تحقيق وتدقيق، حتى يمكن أن يقال انهم أشخاص طيبون، ذووا نيات حسنة وإحساسات رقيقة وسلامة في القلب يؤكدها سلام في القالب... كل هذا ناتج عن حصاد فعلي متراكم خلال كل لحظة ولمحة ومدة، من خلال الأقوال والأفعال والأحوال...

وذلك بسيط الإدراك "لمن أراد أن يستسيغه ويتبناه" فالشخص الكاذب مثلا لا تقتصر مشكله انه لا يقول الصدق، ولكنه يتخطاها إلى تكذيب الناس ولو كانوا على صدق، وهذا يفقده المصداقية في نفسه، وكذلك الخائن، فالخيانة سياجه منيع يلتف عليه، وكذلك الفظاظة والغلظة، تفقد صاحبها الأمن والأمان والسلام...

وذكر الصدق والكذب والأمانة والخيانة والعدل والجور والكرم والبخل والمروءة والرعونة والشجاعة والجبن... وما إلى ذلك من السلوك القويم أو نقيضه الذي يعتبر زوج متناقض، إذا حضر أحده انتفى بالطبيعة ضده، وليس محط هذا في فكر مجرد يمكن نسخه بسهولة أو محوه، أو فعل سطحي يمكن معالجته بالإصلاح والترقيع ، إنما هو حال انطبعت في الطوية رسومه وانعكست على الجوارح سِماته و وُصومه، فإذا قال الرسول الكريم: وما يزال الرَّجل يكذب، ويتحرَّى الكذب حتى يُكْتَب عند الله كذَّابًا... فإنما هي دلالة عملية برمجية (processus de programmation) مبدأها من الأعماق والكيان ومنطقها على الجوارح والأركان، على عكس بعض الأعمال الأخرى كالزنا والسرقة... وإن بدت شناعتها وتعفنت طباعها، ودليلها جواب الرسول الكريم عندما سئل: يا رسول الله هل يزني المؤمن؟ قال صلى الله عليه وسلم : قد يكون ذلك.. قال: يا نبي الله.. هل يكذب المؤمن ؟ قال صلى الله عليه وسلم : لا ثم أتبعها صلى الله عليه وسلم بقول الله تعالى : إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله..

فأجناس الأعمال تتنوع على درجات تنوع واردات الأحوال فيها، عروجا إلى أعلى عليين أو نزولا إلى أسفل السافلين، وعلى ذلك يكون التأثير من المظهر إلى المخبر أو بروزا من المخبر إلى المظهر، وهكذا ينبت المرض إنباتا من انعكاس الفعل على طبيعة الأصل، ويغذى بفقدان الطبيعة الرجوعية ومقاومة السلوكات التقويمية، حتى يصبح الدخيل (المرض) مستعمرا.. ومحاصرا.. وفارضا حكمه بالمرض بعد السلامة وبالسقم بعد العافية...

أو عروجا باليقظة بعد الغفلة، وتقويم الحاصل من المتحصل حتى تعرف طريقة الرجوع ومنهجية استرجاع ما سلب من الطبيعة الحقيقية والنشأة السليمة للعضو العليل ووظيفته، أو مراكز تزويده البنيوية أو الطاقية أو التركيبية أو التوصيلية... حتى يسترجع العضو و مركزه الوظيفي سلامة القرار ونجاعة التأثير في ما أنشئ من أجله..

اما تقويم الحاصل من المتحصل فيدخل في طريق الكشف، ومشروط ان يكون عرضيا(بالطب المادي المعروف) وأصلي بمعرفة الأسباب والمسببات (وهو النفسي "السلوكي")، وقد يؤثر السلوكي على العرضي وليس العكس، وإن ظهر للعموم أن العرضي له تأثير مثبوت في التقنيات والممارسات الآلية المتقدمة، لكنه في الواقع أعانه سلوك المريض الممتحن في تحفيز الجانب النفسي أو ربما السلوكي بمراجعة النفس والإقرار بالرجوع والإصلاح.. وهذا ما "يرفع الإيحاء" عند المريض ويلحق بنفع الدواء الوهم، وهو في الواقع رحمة باطنة في محنة ظاهرة!!!

هذه بعض من الجوانب "النفسية" أو "ما فوق النفسية" كما يقال في الطب الحالي، أو الإبرائية في ما يتعلق برفع المقومات لاستعداد المريض للتشافي، ونسبة المقومات تُرفع بدرجة الاستعداد، ونسبة الاستعداد ترفع بدرجة القبول والرضا، وهذا قد يصل بالمريض إلى التشافي الحالي أو الآني بغير إضافات أخرى.. وهذا ما يسميه الطب العرضي: "الشفاء المعجزة"..

لعلي عمقت الفكرة أكثر من المعتاد، وأحاول أن أضع تصورا (خصوصا للأطباء المسلمين المهتمين) لعلهم يخرجون من الأدب التقليدي في الحكاية الطبية الإسلامية، ويتحررون من تحليل الآيات القرآنية الواردة في الموضوع والأحاديث الشريفة على المعنى اللغوي فقط، أو التحيّز المذهبي أو الممارسة النفعية...

فرفع الإيحاء عند المريض يتأثر بسلوك المريض وهذا ما نتمنى أن يكون موضوع بحث للأطباء المسلمين إذا كان لهم إلمام بحقائق الدين في تخصصهم، وهذا ما سنناقش بعضا من أبوابه لا حقا.. لكن الذي لم يتنبه إليه أحد من الباحثين الأطباء هو رفع الإيحاء عند الطبيب المعالج!!!..

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire