لا تترك الذكر لعدم حضورك مع الله فيه، لأن غفلتك من وجود ذكره أشد من غفلتك في وجود ذكره، فعسى أن يرفعك من ذكر مع وجود غفلة إلى ذكر مع وجود يقظة، و من ذكر مع وجود يقظة إلى ذكر مع وجود حضور، و من ذكر مع وجود حظور إلى ذكر مع وجود غيبة عما سوى المذكور، و ما ذلك على الله بعزيز.

قلت: الذكر ركن قوي في طريق القوم، و هو أفضل الأعمال، قال تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) و قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا) الأحزاب/41.. ، و الذكر الكثير، أن لا ينساه أبدا، قال ابن عباس رضي الله عنهما، كل عبادة فرضها الله تعالى جعل لها وقتا مخصوصا، و عذر العباد في غير أوقاتها، إلا الذكر لم يجعل له وقتا مخصوصا، قال تعالى: (اذكروا الله ذكرا كثيرا) ، و قال تعالى: (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ) النساء 103، و قال رجل يا رسول الله، كثرت علي شعائر الإسلام، فأوصني بأمر أدرك به ما فاتني، و أوجز، فقال صلى الله عليه و سلم: " لا يزال لسانك رطب بذكر الله"، و قال عليه الصلاة و السلام: " لو أن رجلا في حجره دراهم يقسمها، و آخر يذكر الله لكان الذاكر لله أفضل" و قال صلى الله عليه و سلم: " ألا أنبئكم بخير أعمالكم و أزكاها عند مليككم، و أرفعها في درجاتكم، و خير لكم من إنفاق الذهب و الورق، و خير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم و يضربوا أعناقكم" قالوا و ما ذاك يا رسول الله، قال: " ذكر الله "، و عن علي كرم الله و جهه قال: يا رسول الله أي الطرق أقرب إلى الله و أسهلها على عباد الله و أفضلها عند الله تعالى، فقال صلى الله عليه و سلم: " يا علي عليك بمداومة ذكر الله" فقال علي: كل الناس يذكرون الله، فقال صلى الله عليه و سلم: " يا علي، لا تقوم الساعة حتى لا يبقى على وجه الأرض من يقول لا إله إلا الله، فقال له علي، كيف أذكر يا رسول الله، فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم:" اغمض عينيك و اسمع مني ثلاث مرات، ثم قل مثلها و أنا أسمع، فقال صلى الله عليه و سلم: " لا إله إلا الله " ثلاث مرات مغمضا عينيه، ثم قالها علي كذلك، ثم لقنها علي للحسن البصري، ثم الحسن لحبيب العجمى، ثم حبيب لداوود الطائي، ثم داوود لمعروف الكرخي، ثم معروف للسري، ثم السري للجنيد، ثم انتقلت إلى أرباب التربية، فلا مدخل على الله إلا من باب الذكر..

فالواجب على العبد ان يستغرق فيه أوقاته، و يبذل فيه جهده، فإن الذكر منشور الولاية، و لا بد منه في البداية و النهاية، فمن أعطى الذكر فقد أعطي المنشور، و من ترك الذكر فقد عزل و انشدوا:

و الذكر أعظم باب أنت داخلــه

لله، فاجعل له الأنفاس حراســـا

فبقدر ما يفنى في الإسم يفنى في الذات، و بقدر ما يفتر في الفناء في الإسم يكون متفترا في الفناء في الذات، فليلتزم المريد الذكر على كل حال، و لا يترك الذكر باللسان لعدم حضور قلبه فيه، بل يذكره بلسانه، و لو كان غافلا بقلبه، فإن غفلتك عن وجود ذكره أشد من غفلتك في وجود ذكره، لأن غفلتك عن وجود ذكره إعراض عنه بالكلية، و في وجود ذكره إقبال بوجه ما، و في شغل اللسان بذكر الله تزيين جارحة بطاعة الله، و في فقده تعرض لاشتغالها بالمعصية، قيل لبعضهم، ما لنا نذكر الله باللسان و القلب غافل، فقال: أشكر الله على ما وفق من ذكر اللسان، و لو أشغله بالغيبة ما كنت تفعل، فليلزم الإنسان ذكر اللسان حتى يفتح الله في ذكر الجنان، فعسى أن ينقلك الحق تعالى من ذكر مع وجود غفلة، إلى ذكر مع وجود يقظة، أي انتباه لمعاني الذكر عند الاشتغال به، و من ذكر مع يقظة إلى ذكر مع وجود حضور المذكور، و ارتسامه في الخيال حتى يطمئن القلب بذكر الله، و يكون حاضرا قلبه مع دوام ذكره، و هذا هو ذكر الخواص، فالأول ذكر العوام، فإن دمت على ذكر الحضور رفعك إلى ذكر مع الغيبة عما سوى المذكور حتى يصير الذاكر مذكورا، و الطالب مطلوبا، و الواصل موصولا،و ما ذلك على الله بعزيز، أي بممتنع، فقد يرفع في أعلى الدرجات من كان في أسفل الدركات، و ها هنا يسكت اللسان، و ينتقل الذكر للجنان، فيصير ذكر اللسان غفلة في حق هذا المقام، كما قال الشاعر:

ما إن ذكرتك إلا هم يلعنـني

سري و قلبي و روحي عند ذكرتك

حتى كان رقيبا منك يهتف بـي

إياك ، ويحك ، و التذكار إيــاك

أما ترى الحق قد لاحت شواهده

و واصل الكل من معناه معنــاك

و قال الواسطي مشيرا إلى هذا المقام: الذاكرون في ذكره أكثر غفلة من الناسين لذكره، لأن ذكره سواه.

يعني أن الذاكرون بالقلوب هم في حال ذكرهم لله بلسانهم أكثر غفلة من التاركين لذكره، لأن ذكره باللسان و تكلفه يقتضي وجود النفس، و هو شرك، و الشرك أقبح من الغفلة، هذا معنى قوله: لأن ذكره سواه، أي لأن ذكر اللسان يقتضي استقلال الذاكر، و الفرض أن الذاكر محو في مقام العيان..

قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: حقيقة الذكر، الانقطاع عن الذكر إلى المذكور، و عن كل شيء سواه، لقوله تعالى: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا) المزمل/8.

و قال القشيري رضي الله عنه: الذكر اندراج الذاكر في مذكوره، و استظلام السر عند ظهوره، و في معنى ذلك أنشدوا:

ذكرتك لا أني نسيتك لمــحة

و أيسر ما في الذكر ذكر لساني

و صرت بلا وجد أهيم من الهوى

و هام علي القلب بالخفقـان

فلما أراني الوجد أنك حاضـري

شهدتك موجودا بكل مكان

فخاطبت موجودا بغير تكلــم

و شاهدت موجودا بغير عيـان

و في هذا المقام يتحقق المريد بعبادة الفكرة، أو النظرة، و فكرة ساعة خير من عبادة سبعين سنة، و لذلك قال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه: أوقاتنا كلها ليلة القدر، أي عبادتنا كلها مضاعفة مع خفائها و تحقيق الإخلاص فيها، إذ لا يطلع عليك ملك فيكتبه و لا شيطان فيفسده، و في ذلك قال بعضهم قيل هو الحلاج:

قلوب العارفين لها عيــون

ترى ما لا يرى للناظريــن

و أَلْسِنة بأسرار تناجـــي

تغيب عن الكرام الكاتبيـن

و أجنحة تطير بغير ريــش

إلى ملكوت رب العالمـــين

و قد ذيلتها بهذين البيتيــن:

و أفئدة تعيش بعشق وجد

إلى جبروت ذي حق يقينـا

فعن تردن تباكر ذي المعاني

فبذل الروح منك يقل فينا

و لما كان الذكر هو سبب حياة القلب، و تركه سبب موته، و في الحديث: " مثل الذي يذكر ربه و الذي لا يذكر ربه كمثل الحي و الميت" فالذكر علامة حياته و موته.

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire