لا تستغرب وقوع الأكدار ما دمت في هذه الدار، فإنها ما أبرزت إلا ما هو مستحق وصفها و واجب نعتها.

الاستغراب، تصيير الشيء غريببا حتى يتعجب منه، و الأكدار كل ما يكدر على النفس و يؤلمها ، و مستحق وصفها ما تستحق أن توصف به، و واجب نعتها ما يجب أن تنعت به، قال بعضهم: الوصف يكون بالأمور اللازمة، و النعت يكون بالعوارض الطارئة، فالأمور اللازمة كالبياض و السواد، و الطول و القصر، و العوارض كالصحة و المرض و الفرح و الحزن و غير ذلك ، و المراد هنا بالأوصاف ما يتكرر وقوعه كالموت و الأمراض و ما يقع كثيرا، و بالنعوت ما يقل وقوعه في العادة كالفتن و الهرج و الزلازل، لأنهم يقولون، الأوصاف لوازم، و النعوت عوارض، و قيل شيء واحد و هو الأصح.

قلــت: من آداب العارف أن لا يستغرب شيئا من تجليات الحق، و لا يتعجب من شيء منها كائنة ما كانت، جلالية أو جمالية، فإن نزلت به نوازل قهرية، أو وقعت في هذه الدار أكدار و أغيار جلالية، فلا يستغرب وقوع ذلك، لأن تجليات هذه الدار جلها جلالية، لأنها دار أهوال و منزلة فرقة و انتقال.

و في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال في بعض خطبه: " أيهاالناس، إن هذه الدار دار التواء لا دار استواء، و منزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخائها و لم يحزن لشقائها ألا و إن الله خلق الدنيا دار بلوى و الآخرة دار عقبى، فجعل بلوى الدنيا لثواب الآخرة سببا، و ثواب الآخرة من بلوى الدنيا عوضا، فيأخذ ليعطي، و يبتلى ليجزي، و إنها لسريعة التوي و شيكة الانقلاب، فاحذروا حلاوة رضاعها لمرارة فطامها، و اهجروا لذيذ عاجلها لكربة آجلها، و لا تسعوا في عمران دار قضى الله خرابها، و قد أراد الله منكم اجتنابها فلا تواصلوها، فتكونوا لسخطه متعرضين و لعقوبته مستحقين "

و قال الجنيد رضي الله عنه: و ليس أبشع مما يِرد عليّ من العالم لأني أصلت أصلا، و هو أن الدار دار همِِّ و غمّ و بلاء و فتنة، و أن العالم كله شرّ، و من حِكمهِ أن يتلقاني بكل ما أكره، فإن تلقاني بما أحب فهو فضل، و إلا فالأصل هو الأول،

و في ذلك قيــل:

يمثل ذو اللب في لبـــه

شدائده قبل أن تنـــزلا

فإن نزلت بغتة لم ترعــه

لما كان في نفسه مثـــلا

رأى الأمر يفضى إلى آخـر

فصير آخـــــره أولاً

و ذو الجهل يأمن أيامــه

و ينسى مصارع من قد خلا

فإن داهمته ضروف الزمــا

ن ببعض مصائبه أعــولا

و لو قدم الحزم من نفســه

لعلمه الصبر عند البـــلا

و قال أبو سليمان الداراني لأحمد ابن الحواري: يا أحمد، جوع قليل، و عرى قليل، و ذل قليل، و صبر قليل، و قد انقضت عنك أيام الدنيا .

فلا تستغرب أيها العارف ما يقع بك، أو لغيرك من الأكدار ما دمت مقيما في هذه الدار، لأنها ما برز فيها من التجليات الجلالية إلا ما هو مستحق أن تتصف به، و واجب أم تنعت به، فلا تستغرب شيئا و لا تتعجب من شيء، بل الواجب عليك أن تعرف الله في الجلال و الجمال و الحلو و المر، و أما إن كنت لا تعرفه إلا في الجمال، فهذا هو مقام العوام، و المعرفة في الجلال هو السكون و الأدب و الرضى و التسليم، فينبغي للفقير أن يكون كعشب السمار، إذا جاءت حملة الوادي حنى رأسه و إذا ذهبت رفع رأسه،

و كما لا تستغرب وقوع الأكدار بحيث لا تحزن و لا تخاف و لا تجزع، كذلك لا تتعجب من وقوع المسار و هو الجمال بحيث لا تفرح و لا تبطر، فإن الجلال مقرون بالجمال، و الجمال مقرون بالجلال، يتعاقبان تعاقب الليل و النهار، و العارف يتلون مع كل واحد منهما و لا يستغرب شيئا، و لا يتعجب من شيء، إذ كل ما يبرز من عنصر القدرة كله واحد.

و بهذا وقع التفريق بين الصادق و الصديق، لأن الصديق لا يتعجب من شيء و لا يتردد في شيء وعد به بخلاف الصادق، فإنه مهما رأى شيئا مستغربا تعجب منه، و إذا وعد بشيء قد يتردد في امتثاله، و قد وصف الله تعالى السيدة مريم بالصديقة، و أم السيدة سارة بها، لأنها لما بشرت بالولد على وجه خرق العادة استغربت و قالت : إن هذا لشيء عجيب، فلذلك قالت لها الملائكة : أتعجبين من أمر الله، بخلاف مريم، لم تتعجب، و إنما سألت سؤال استفهام فقط، أو سألت عم وقت ذلك أو كيفيته، هل يكون بالتزويج أو بغيره، و الله تعالى أعلم .

ثم ذكر الأدب الثامن، و هو أن يكون تصرفه بالله و لله و من الله و إلى الله، و هو مقام الصدق الذي هو لب الإخلاص، و إخلاص خواص الخواص فقـــال:

الأدب الثامن: الغيبة عن الأنوار بشهود الواحد القهار

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire