من تمام النعمة عليك أن يرزقك ما يكفيك و يمنعك ما يطغيك.

   قلت: من تمام النعمة على عبده أن يوجه همته إليه، و يفرغ قلبه من التعلق بغيره كائنا ما كان، فيرزقه ما يكفيه عن التعلق بغيره و هو الغنى بالله، إذ لا نعمة أعظم من الغنى بالله، و الغيبة عما سوى الله، و يكفيه كل ما يطغيه حتى يشتغل به عن ربه، فإذا رزقك الحق تعالى ما يكفيك لقيام بشريتك أكلا و لباسا و مسكنا، و لقيام روحانيتك علما و عملا و ذوقا و معرفة، و منعك ما يطغيك و يشغلك عن حضورك مع ربك، فقد أتم نعمته عليك فاشكره على ما أسدى إليك، و توجه إليه وحده، و ادفع ما يشغل قلبك من النهوض إليه، إن الله يدافع عن الذين آمنوا، إن الله مع الذين اتقوا و الذين هم محسنون، و قد استعاذ عليه السلام مما يشغل القلب و ينسي الرب فقرا أو غنى، فكان يتعوذ من الفقر المنسي و الغنى المطغي، و قال: " اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا" و قال عليه السلام: " خير الذكر الخفـي" أي في القلب، و هو الفكرة، و خير الرزق ما يكفي، و قال عليه السلام:" ما طلعت إلا و بجناحيها ملكان يسمعان الخلائق غير الثقلين أيها الناس هلموا إلى ربكم ما قل و كفى خير مما كثر و ألهى" و قال عليه السلام:" ليس الغنى بكثرة العرض إنما الغنى غنى النفس" و في ذلك قيل:

غنى النفس ما يكفيك عن سد خلـة       فإن زدت شيئا عاد ذاك الغنى فقــرا

   و قال عبد الواحد بن زيد رضي الله عنه: سمعت أن جارية مجنونة في خراب الأيلة تنطق بالحكم، فكنت أطلبها حتى وجدتها، و هي محلوقة الرأس و عليها جبة صوف، فلما رأتني قالت: مرحبا بك يا عبد الواحد، فعجبت من معرفتها لي، و لم تزدني فقلت لها، رحب الله بك، ثم قالت: ما جاء بك؟ قلت: تعظيني، قالت: وا عجبا لواعظ يوعظ، يا عبد الواحد، اعلم أن العبد إذا كان في كفاية و مالَ إلى شيء من الدنيا سلبه الله حلاوة الزهد، و ظل حيران و لهان، فإن كان له عند الله نصيب عاقبه وحياً في سره فيقول له: عبدي أردت رفع قدرك عند ملائكتي، و أجعلك دليلا لأوليائي، و مرشدا لأهل طاعتي، فملت إلى عرض الدنيا و تركتني، فأورثك ذلك الوحشة بعد الأنس و الذل بعد العز و الفقر بعد الغنى، ارجع إلى ما كنت عليه، ارجع إلى ما كنت تعرفه من نفسك.. ثم انصرفت و تركتني، و بقيت حسرتها في قلبي.

   و في بعض الكتب المنزلة، أن أهون ما أصنع بالعالم إذا مال إلى الدنيا أن أسلبه حلاوة مناجاتي/.

   و إنما كانت الكفاية نعمة، و الزيادة عليها نقمة كما قال الشيخ، لأن النفوس مجبولة على حب العطاء و كراهية الفقد، فإذا أعطاها فرحت و إذا أزال عنها حزنت، فمن أراد أن يدوم فرحه فلا يأخذ فوق كفايته ما يحزن على فقده كما أبان ذلك في قوله:

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire