ما أحببت شيئا إلا كنت له عبدا و هو لا يحب أن تكون عبدا لغيره.

   قلت: القلب إذا أحب شيئا أقبل عليه و خضع له و أطاعه في كل ما يأمره، إن المحب لمن يحب مطيع، و هذه هي حقيقة العبودية، الخضوع و الطاعة، و ليس للقلب إلا وجهة واحدة، و ليس للعبد إلا قلب واحد، قال تعالى:( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه).

   و إذا كان للقلب وجهة واحدة، فمهما أقبل بها على مولاه أعرض عما سواه، و كان عبدا له حقيقة، و إذا أقبل على هواه أعرض قطعا عن مولاه و كان عبدا لسواه، و الحق سبحانه و تعالى لا يرضى لعبده أن يكون عبدا لغيره، قال تعالى في ذم من كان عبدا لهواه: ( أرأيت من اتخذ إلهه هواه و أضله الله على علم و ختم على سمعه و قلبه و جعل على بصره غشاوة، فمن يهديه من بعد الله) الجاثية23،

   هذا نص في ذم من أحب هواه، و اتخذ ربا من دون مولاه، و أما تفسير أهل الباطن، فهو إشارة لا تفسير معنى، و في الحديث أن للقرآن ظاهرا و باطنا واحدا و مطلعا، فقد ورد عن شيوخنا سيدي محمد بن عبد الله في إشارة هذه الآية أنه يمكن أن يكون مدحا، و معناه حينئذ: أفرأيت من اتخذ إلهه الذي خلقه هواه، لا يحب سواه، و أضله في محبته على علم و بينة من ربه، و ختم على سمعه و قلبه بمحبته، و جعل على بصره غشاوة منعه من النظر إلى غيره، فمن يهديه هذه الهداية العظمى من بعد الله، لا هادي له سواه، و هذا في ظاهر العبارة خارج عن ظاهر سياق الآية، لكنه باطنها، و لا يصح تفسير الآية به، و اعلم أن تفسير هذه الطائفة لكلام الله و كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم على غير المعنى المعهود ليس عندهم عين المعنى المراد، و لكنهم يقررون الآية و الحديث على ما يعطيه اللفظ، ثم يفهمون إشارات و دقائق و أسرار خارجة عن مقتضى الظاهر خصهم الله بها لصفاء أسرارهم، هكذا ذكر المؤلف في لطائف المنن/.

   ثم نرجع إلى ما كنا فيه من طلب العبودية لله و الحرية مما سواه قال صلى الله عليه و سلم: " تعس عبد الدينار و الدرهم و القطيفة، زاد في رواية، و الزوجة، تعس و انتكس، و إذا شيك فلا انتقش "، و قيل للجنيد: من العبد ؟ قال: من بقي في قلبه أدنى علاقة لغير الله، لأن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، قيل له و ما الحر؟ قال: من تخلص من رق طبعه و استنفذ قلبه من  شهوات نفسه.

   و كان للشبلي تلميذ فكساه رجل يوما جبة و كان على رأس الشبلي قلنسوة، فخطر على قلب التلميذ محبة القلنسوة ليجمعها مع الجبة، فكاشفه الشيخ، فأزال له الجبة و جمعها مع القلنسوة و رمى بهما في النار و قال له: لا تبق في نفسك التفاتا لغير الله، و أنكر عليه بعض أهل الظاهر المتجمدين على ظاهر الشريعة جهلا بالمقصود، لأن أعمال الصوفية مبنية على العبادة القلبية، لأن الأعمال الظاهرة إن لم يوافقها القلب كانت أشباحا خاوية، و بالله التوفيق.

   و اعلم أن من تخلص من رق طبعه و استنقذ من أسر نفسه، فقد تحقق بمحبة ربه، و المحبة لها بداية و وسط و نهاية.

  فأول المحبة و بدايتها ملازمة امتثال الأمر و اجتناب النهي، قال تعالى: ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) و وسطها لهج اللسان بالذكر و تعلق القلب بشهود المحبوب، و نهايتها لا تدرك بالعبارة و لا تلحقها الإشارة، و في هذا المعنى قيل:

فلـم يبق إلا الله لا رب غيــره           حبيـب لقلب غاب عـن كـل مقصــد

هنيئـا لمن قـد نال حب حبيبه            و خـاض بتـرك الغيـر أكرم مـورد

نعيم بلا حـد لديــه مجـدد            على عدد الأنفاس فـي كل مشهـــد

 

   روي أن أبا يزيد كان بحذاء المنبر، فقرأ الخطيب: و ما قدروا الله حق قدره ، فصبر نفسه حتى طار الدم من عينيه، فهذه المعاني لا تدركها العامة و لا الخاصة، و إنما يذوقها خاصة الخاصة، و أنشدوا:

و حقك لو أفنيــت قلبي صبابـة              لكنت علـى هـذا حبيبا إلـى قلبــي

أزيد على عـذل العـذول تشوقـا             و وجدا على وجد و حبــا إلـى حـب

أبى القلـب إلا أنت في  كـل حالة              حبيبا و لو دارت عليـه يـد  الكــرب

فلا تبتليـه بالعبــاد فإنمـــا              تلذذ أنفـاس المحبيــن بالقــــرب

 

لا تنفعه طاعتك و لا تضره معصيتك

   و معنى محبة الله لعبده حين يقبل عليه، و هو تقريبه لحضرته و هدايته لمحبته من غير نفع له في ذلك، إذ لا تنفعه طاعة من أقبل عليه، و لا تضره معصية من أدبر عنه، إذ هو غني عن الكل كما أشار إلى ذلك بقوله:

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire