حقوق في الأوقات يمكن قضاؤها و حقوق الأوقات لا يمكن قضاؤها، إذ ما من وقت يرد إلا و لله عليك فيه حق جديد و أمر أكيد، فكيف تقضي فيه حق غيره و أنت لم تقض حق الله فيه.

   قلت: أما الحقوق التي في الأوقات فهي الطاعة التي عين الله تعالى لها وقتا محدودا، كالصلوات الخمس و السنن المؤكدة، و كذلك الزكاة و الصيام لهما وقت محدود في العام، فإذا خرج وقتها أمكن قضاؤها و إن كان صاحبها مفرطا، لكن بعض الشر أهون من بعض.

   و أما حقوق الأوقات بأنفسها، فهي مراقبة الحق أو مشاهدته، كل واحد على قدر وسعة، لا يكلف الله نفسا إلا ما أتاها، و هي الحقوق إذا فات وقتها لا يمكن قضاؤها، إذ الوقت الثاني له حق مخصوص لا يسع غيره، فما من لحظة إلا وجب عليك فيها أن تكون عاملا لله مشتغلا فيها بما يوصلك إلى قربه و رضاه و هذا معنى قولـه:

الحكمة الحادية عشر بعد المائتين

إذ ما من وقت يرد إلا و لله عليك فيه حق جديد و أمر أكيـد،

فكيف تقضي فيه حق غيره و أنت لم تقض حق الله فيه ؟؟

    قلت: ما من وقت أو لحظة ترد عليك أيها العبد إلا و لله عليك فيها حق جديد من ذكر أو فكرة أو نظرة، أو من مراقبة أو مشاهدة أو من خدمة حسية أو معنوية، قد علم كل أناس مشربهم.

   و أمر أكيد من التحقق بالعبودية و القيام بوظائف الربوبية، فإن غفلت عن الحق الجديد أو الأمر الأكيد في وقت ما دخل الوقت الثاني، فقد فاتك القضاء و ندمت على ما مضى، فكيف يمكن أن تقضى في الوقت الثاني حق غيره، و هو أيضا له حق يجب أن تؤديه فيه، فلا يمكنك أن تقضي حق الوقت الأول في الوقت الثاني، و أنت لم تقض حق الله فيه أي في الوقت الثاني.

   و الحاصل، أن كل وقت له حق، فإن فات فلا قضاء له، و لذلك قالوا في الآداب: التصوف هو ضبط الأنفاس و حفظ الحواس، و الأنفاس هي دقائق الساعات، و ضبطها هي عمارتها بأنواع الطاعات، فإن ضيع حقوق الساعات خرج عن آداب التصوف، و الله تعالى أعلم.

   قال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه: أوقات العبد أربعة لا خامس لها: نعمة أو بلية أو طاعة أو معصية، و له على عبده في كل وقت منها حق، ففي النعمة الشكر و في البلية الصبر، و في الطاعة شهود المنة، و في المعصية اللجاء و الإنابة و طلب الإقالة، و في هذا المعنى قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: " من أعطي فشكر و ابتلي فصبر و ظلم فغفر و أذنب فاستغفر" ثم سكت عليه السلام، فقالوا و ما له يا رسول الله، قال: " أولئك لهم الأمن و هم مهتدون" أي لهم الأمن يوم القيامة و هم مهتدون في الدنيا، و قيل لهم: الأمن في الدارين و هم مهتدون إلى حضرته في الكونين.

   و اعلم أن القيام بحقوق الأوقات على التمام يكاد أن يكون متعذرا في حق البشر، قال تعالى: ( و ما قدروا الله حق قدره) أي ما عبدوه حق عبادته و ما عرفوه حق معرفته، فلهذا كانت حقوق الأوقات لا يمكن قضاؤها، لأنها راجعة لحظ الأنفاس و الخطرات، و قد أعيى الرجال حفظها في حال الصلاة، فكيف في كل وقت، لكن قد يختص برحمته من يشاء.

   قال بعضهم: منذ عشرين سنة ما خطر على قلبي شيء سوى الله تعالى.

   و قال الشيخ أبو الحسن: من أحب الله لم يستعمل جوارحه إلا فيما يوافق محبوبه، و أنفاسه كلها محفوظة بالطاعة، و لو حيل بينه و بين الخدمة لفارق الدنيا من ساعته، لأن الطاعة قد صارت غذاء أرواحهم، فإن فارقوها ماتوا، نفعنا الله بهم آمين.

   ثم في تضييع حقوق الأوقات تضييع العمر، الذي هو اعز من الكبريت الأحمر، و هو الذي نبه عليه بقوله:

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire