فرغ القلب من الأغيار تملأه بالمعارف و الأسرار.

   قلت: التفرغ هو الخلو من الشيء و التنظيف منه، و الأغيار جمع غير بكسر الغين و فتح الياء و يجوز بفتح الغين و سكون الياء، و المراد منه السوى، و إنما جمعه لتعدد أنواعه كما قالوا في جمع العالمين.

   يقول رضي الله عنه: فرغ قلبك أيها الفقير من الأغيار، و هو ما سوى الله، بحيث لا يتعلق قلبك بشيء من الكون علويا أو سفليا، دنيويا أو أخرويا، حسيا أو معنويا، كحب الخصوصية و غيرها من الحظوظ، فإذا رحل قلبك من هذا العالم بالكلية، و لم يبق فيه إلا محبة مولاه، فإنه يملأه بالمعارف، بحيث يكشف عنك حجاب الوهم و يذهب عنك ظلمة الحس، فتشاهد الأشياء كلها أنورا ملكوتية، مشاهدة ذوقية تمكينية، و يملأه أيضا بالأسرار، و هي أسرار الجبروت، فتغيب بالجمع عن الفرق و بشهود الجبروت عن شهود الملكوت، و تكاشف بأسرار القدر، فيهب عليك نسيم برد الرضى و التسليم في حضرة النعيم المقيم عند الملك الكريم.

   فالأسرار على هذا أبلغ من المعارف، فللعارف أنوار الملكوت، و الأسرار أنوار الجبروت، و السائر قد يكشف له عن أنوار الملكوت فيشهد الكون كله نورا، لكنه مفتقر إلى تلك الأنوار ليرقى بها إلى التمكين في شهود الذات كافتقار القارئ إلى النظر في الرسوم، فإذا حفظ القارئ المعنى و تمكن منه محى الرسوم و لم يفتقر إليها.

   كذلك السالك يكشف له أولا عن نور الكون فيغيب في النور عن ظلمة الحس، ثم لا يزال في السير حتى يقبض المعنى و يتمكن منه، فلا يحتاج إلى مشاهدة، فيستغني عن نور الملكوت بنور الجبروت، و قد تقدم هذا المعنى عند قول المؤلف: اهتدى الراحلون...، فيمتحى السوى عن عين قلبه بالكلية و يغيب عن نفسه و حسه بشهود الأحدية و لله در القائــل:

إن تلاشى الكـون عن عيـن قلبــي       شاهـد الســر غيبـه فـي بيـــان

فاطـرح الكـون عن عيانـك و امـح       نقطــة الغيـن إن أردت تـرانـــي

 

   و يحتمل أن يريد بالمعارف علوم العرفان، و بالأسرار الأذواق و الوجدان، فتكون المعارف هي علوم المعرفة، بحيث يعرف في كل شيء و لا ينكر شيئا، و الأسرار أذواق تلك العلوم، فإن المعرفة تكون أولا علما و آخر ذوقا، و يحتمل أن يكون من عطف التفسير فتكون الأسرار هي المعارف، و الله تعالى أعلم.

   و من أراد سرعة السير إلى هذا المقام، فليفرغ قلبه و ينظفه على التمام، فبقدر التخلية تكون التحلية، و بقدر التصفية تكون الترقية، و لأجل هذا نهوا السائر عن التزويج و عن التعلق بالأسباب إذ لا يخلو من علقة، فإذا تمكن من المعنى لم يبق له مراد إلا مراد معروفه، صار كل ما يبرز عند مولاه تلقاه بالقبول.

   فإن طال بالمريد السفر و تأخر عنه الفتح و الظفر، فلم يدرك هذه الأسرار و لم يكشف له عن تلك الأنوار، فلا يستبطئ من ربه النوال فإنه جواد كريم و لكن يستبطئ من نفسه وجود الإقبال، و إلى ذلك أشار بقوله:

 

السر بين النوال، وجود الإقبال

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire