إنما حجب الحق عنك لشدة قربه منك، و إنما احتجب لشدة ظهوره، و خفي عن الأبصار لشدة نوره.

   قلـت: ذكر في حكمة خفائه تعالى مع شدة ظهوره ثلاث حكم:

   الحكمة الأولى: شدة القرب، و لا شك أن شدة القرب توجب الخفاء، كسواد العين، فإن الإنسان لا يدرك سواد عينيه لشدة قربه منه، و الله تعالى أقرب إليك من كل شيء، قال تعالى:( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) ق/16، فشدة قربه منك موجب لاضمحلالك، قال في لطائف المنن: فعظيم القرب هو الذي غيب عنك شهود القرب، و قال الشيخ أبو الحسن: حقيقة القرب أن تغيب في القرب عن القرب لعظيم القرب، كمن يشم رائحة المسك، و لا يزال يدنو، و كلما دنى منها تزايد ريحها، فلما دخل البيت الذي فيه المسك انقطعت رائحته عنه، و أنشد بعض العارفين:

   كم ذا تمـوه بالشعبيــن و العلـم         و الأمـر أوضـح من نـار علـى علـم

   أراك تسأل عـن نجد و أنـت بهـا         و عـن تهـامـة هــذا فعل متهــم

   الحكمة الثانية: شدة نوره، و لا شك أن شدة النور موجب لعدم الإدراك فإن البصر لا يقاوم النور الباهر، و في حديث مسلم في قصة الإسراء، قلنـا: يا رسول الله، هل رأيت ربـك، قال: " نور أنى أراه " بلفظ الاستفهام، أي غلبني النور، كيف أراه، و في روايه رأيت نورا، ثم لم يطق مشاهدته بالبصر مع تحقق شهوده بالبصيرة، و انظر كيف البرق الخاطف، فالبصر لا يطيق رؤيته، و أنشـدوا:

بالنـور يظهـر ما تـرى مـن صورة      و بـه وجـود الكائنات بـلا امتـرا

لكنـه يخفـــى لفــرط ظهـوره      حسا و يدركـه البصير مـن الورى

فإذا نظرت بعيــن عقلـك لم  تجـد       شيئـا سواه على الذوات مصــورا

و إذا طلبـت حقيقة  مـن  غيـــره       فبذيـل جهلـك لا تزال معثـّــرا

   و هذا النور الذي نتكلم عليه ليس حسيا، و إنما هو على ما يبدو من معاني الصفات و الأسماء، التي تخرج من ظلمة الجهل إلى معرفة أسمائه تعالى و صفاته (قاله الشيخ زروق)..

   قلـت: هو النور الأصلي الذي فاض من بحر الجبروت، إلا أنه تستر بالحكمة و العزة و القهرية، سئل أبو القاسم النصرباذي عن قولهم:

و يظهر فـي الهوى عـز المـوالي        فيلـزمنـي منــه ذل العبيـــد

   فقال عز الموالي: الستر، لأنه لو انهتك الحجاب لتفطر الألباب..

 

   و هذا آخر الباب السابع عشر، و حاصلها ثلاث أمور:

     الأول: تلازم الدلالة على أولياء الله للدلالة على الله، بحيث لا ينفك أحدهما على الآخر في الغالب.

   الثانـي: تفسير أسرار الولاية، و هي الاطلاع على أسرار غيب الملكوت دون اشتراط الاطلاع على أسرار العباد، لأن ذلك قد يكون فتنة في حقه و سببا في عقوبته، إذا لم يتمكن من معرفته مع ما فيه من حظ النفس، فربما تقصده بطاعتها فيكون رياء في حقها، و هو من الأمراض الباطنية التي يصعب علاجها، كالاستشراف إلى إطلاع الناس على خصوصيته، و دواؤه الغيبة عنهم، و الاكتفاء بنظر الله عن نظر غيره..

    الثالـث: علامة وجود هذه الأسرار في العارف، و هي شهود الحق في كل شيء، و فناؤه عن كل شيء، و إيثار محبته على كل شيء، فإن قلت كيف يشهده، و هو غيب، قلت: بل هو الظاهر في كل شيء، و إنما حجبه شدة قربه و شدة ظهوره و عظيم نوره، و إذا علمت أنه قريب و أنه أقرب إليك من روحك و قلبك اكتفيت بنظره، و استغنيت بعلمه عن طلبك، فإن كان و لا بد من الدعاء، فليكن عبودية و مناجاة و تملقا، لا سببا للعطاء، كما أبان ذلك فيما يأتي في أول الباب الثامن عشر..

 

 

الباب العشـرون

آداب الطلب و السؤال مع الكبير المتعال

 

   كيف يكون الطلب من الله

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire