مطالع الأنوار القلوب، و الأسرار نور مستودع في القلوب، مدده من النور الوارد من خزائن الغيوب.
مطـالع الأنــوار، القلـــوب و الأسـرار
قلـت: المطالع جمع مطلع، و هو محل طلوع الشمس، و الأنوار هنا الواردات و الكشوفات التي تكشف الحجب، و ترفع رداء الصون عن مظاهر الكون، و قد تقدم أن النفس و العقل و الروح و القلب و السر عند كثير من الصوفية شيء واحد، و ما هي إلا الروح، تتطور بحسب التصفية و الترقية، فما دامت مشغولة بحظوظها و شهواتها، فهي نفس و نورها مكسوف، فإذا انزجرت و عقلت بعقال الشرع إلا أنها تميل إلى المعاصي و الذنوب، فتارة تعصي و تنوب و تارة تحن و تؤوب سميت عقلا و نورها قليل، لأنها محبوسة في سجن الأكوان معقولة بالدليل و البرهان..
فإذا سكنت عن المعاصي، إلا أنها تنقلب بين الغفلة و اليقظة و بين الاهتمام بالطاعة و المعصية، سميت قلبا و هو أول مطالع الأنوار، فتشرق عليه أنوار التوجه، فلا تزال تترادف عليه الواردات و هي أنوار التوجه حتى يسكن إلى الله و يطمئن بذكر الله، فحينئذ تسمى روحا..
و هو أول مطالع أنوار المواجهة، فبهذه الأنوار ينكشف الحجاب، و تنفتح الأبواب و تدخل في حضرة الأحباب، فإذا تصفت من غبش الحس، و تطهرت من كدر الأغيار سميت سرا و هو أول مطالع أنوار المشاهدة..
فإذا تركن من لوث الأنوار و هو الوقوف مع المقامات، أو الالتفات إلى الكرامات سميت سر السر، و هو أول مطالع أنوار المعاينة و المكالمة..
ثم لا حال و لا مقام، يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعــوا...
و أما الترقي في العلوم و المعارف، فلا نهاية له على الأبد، فالقلوب مطالع و مشارق أنوار التوجه، و الأسرار مطالع و مشارق أنوار المواجهة و المشاهدة و المعاينة، و الروح و السر قريب بعضها من بعض في المرتبة، فلذلك سكت الشيخ عن الأرواح لاندراجها في الأسرار..
و الحاصــل، أن النفوس و العقول المظلمة غالبة عليهما لانهماكهما في الحس و فنائهما في الغلس و الخنس، فليستا مطلعا لشيء من النور لعدم توجهما إلى الكريم الغفور، و أما القلب و الروح و السر فهي مطالع الأنوار، أي محل طلوعها و إشراقها، إلا أن القلب مطلع لأنوار التوجه و الروح و السر مطلعان لأنوار المواجهة، و قد تقدم تفسيرهما عند قوله: اهتدى الراحلون...، و قد سوى الشيخ بينهما، و مراده ما ذكرناه و الله تعالى أعلم..
ثم بين ابتداء مطلع هذا النور و هو القلب، ثم يشرق على الروح ثم على السر، فقال:
نـور مستودع في القلوب، مدده النور الوارد من خزائن الغيوب
قلـت: النور المستدع في القلوب هو نور اليقين، و يكون أولا ضعيفا كنور النجوم، و هو نور الإسلام، ثم لا يزال يتقوى و يستمد من النور الوارد من خزائن الغيوب حتى يكون كنور القمر و هو نور الإيمان، ثم لا يزال ينمو بالطاعة و الذكر و الصحبة حتى يكون كنور الشمس و هو نور الإحسان، و خزائن الغيوب هي أنوار الصفات و أسرار الذات، فمنها تستمد أنوار الإسلام و أنوار الإيمان، ثم تشرق أنوار الإحسان فيتغطى وجود الأكوان..
قال في التنوير: و لو انتهك حجاب الوهم لوقع العيان على فقد الأعيان، و لأشرق نور الإيقان فغطى وجود الأكوان/.
و اعلم أن وجه اصطلاح الصوفية رضي الله عنهم في ترتيب الإسلام أولا، ثم الإيمان، ثم الإحسان، أن العبد ما دام مشغولا بالعبادة الظاهرة الحسية سمي ذلك المقام مقام الإسلام، و إذا انتقل العمل للقلب، و هو اشتغاله بتصفية القلب، بالتخلية و التحلية و تحقيق الإخلاص سمي ذلك مقام الإيمان، فإذا انتقل العمل للروح و للسر و هو الفكرة و النظرة سمي مقام الإحسان بخلاف الفقهاء، فإنهم يقدمون الإيمان على الإسلام، فيقولون لا يصح شيء دون الإيمان، و لا مشاحة في الاصطلاح، قد علم كل أناس مشربهم..
قال بعض المحققين: اعلم أن لعالم الملك و هو عالم الشهادة أنوار ظاهرة، و لعالم الملكوت، و هو عالم الغيب، أنوار باطنة، و أشهر ما في عالم الملك ثلاثة أنوار، نور الشمس و نور القمر و نور النجوم، و يقابلها من عالم الملكوت، نور المعرفة و نور الفهم و نور العلم، فبطلوع نجم العلم في ليل الجهل تبدو الآخرة و الأمور الغيبية، و بطلوع قمر الفهم في أفق التوحيد يشاهد قرب الحق، و بطلوع شمس المعرفة في أفق التفريد يقوى اليقين، و يلوح وجه المشاهدة، و أول نور يلج في الصدر نور الإسلام، فإذا انشرح القلب به انقدف فيه نور الإيمان فإذا تقوى فيه صار شهودا /.
المراد منه، قلت و بهذا النور وسع القلب معرفة الحق، و هو الذي أشار إليه في الحديث القدسي:" لن تسعني أرضي و لا سمائي و وسعني قلب عبدي المؤمن" فانظر هذا القلب الذي وسع الرب سبحانه ما أعظمه و أجله، فتحبب يا أخي إلى أرباب هذه القلوب، التي وسعت علام الغيوب، حتى يوصلوك إلى ما وصلوا إليه من على الغيوب و بالله التوفيق..
ثم ذكر ثمرة النور، و هي الكشف عن حقائق الأشياء فقــال:
0 Commentaire(s)